ليس هناك أجمل من رؤية الماء في الصحراء بعد طول ظمأ، نجري نحوه بلهفة، نعيش هذا الإحساس الرائع بالنجاة والبقاء أحياء. لكننا غالبا ما نكتشف أن الماء كان سرابا. وما اعتقدنا أنه حقيقة رأيناها بأعيننا ثبت أنه كان وهما تخيلناه. وإن أحاسيس الفرحة التي جعلتنا نغني ونرقص ونحن في طريقنا إلي السراب لم يكن لها أي مبرر. وسواء متنا من العطش أو عثرنا علي الماء في مكان آخر، تعيش الأغاني في الذاكرة تتوارثها الأجيال. وهكذا فالاعتقاد الفاسد الذي يجعلنا نضل الطريق قد يمدنا بالأمل، والإحساس الكاذب الذي يلهينا عن الحقيقة قد يحفزنا علي إبداع أروع الأغاني والرقصات!. آمن قدماء المصريين بآلهة لا وجود لها. فأبدعوا الأهرام والمسلات والتماثيل وبرعوا في النحت والرسم وسائر الفنون والعلوم. والحب يلهم الشعراء بأجمل القصائد لكن قد تكون المحبوبة الملهمة قردة أو امرأة لكل الرجال. الإبداع البشري كثيرا ما ينتج عن الخيال لا الواقع بالضرورة، والخيال من عائلة الأحلام والأماني. عاش الإنسان يقاوم ضعفه وبؤس واقعه عن طريق تخيل عالم وهمي مثالي يخلقه. بتصوراته الكاذبة ثم يصدقه ويدافع عنه دفاع المستميت. كمسافر زاده الخيال والسحر والجمال. يعيش الجزء الأكبر من حياته بالوهم. عكس الحيوان الذي يعيش في الحقيقة فقط. الإنسان يعيش في الواقع مضطرا فحسب. لكنه يستعين علي تحمل الحياة بالوهم والخيال. الحيوانات لا تؤلف الأساطير والملاحم لا تترنم بالأغاني ولا تقول الشعر. هي لا تعرف إلا الواقع ولا تطلب إلا البقاء حية. لا تكتب قصصا عن وقائع لن تحدث أبدا. أو تسطر تاريخا علي هواها لم يحدث أبدا. الأسد لا يري في وجه اللبؤة شبها بالقمر الذي يسطع في الليل البهيم! أما الإنسان فيخلق حيوانات خرافية و آلهة لم يرها. وأشباحًا وعفاريت يخاف منها ويشعل النار ليحرقها ويحارب طواحين الهواء! وبعد أن يصنع بخياله كل هذه الأوهام يصدقها. كما يصنع الأغاني الرائعة والتاريخ المكذوب الذي هو أكثر أروعة و الأساطير التي هي قلاع ضخمة نعيش فيها ونحتمي بها. لكن كل ذلك قصور نبنيها علي الرمال أو نبنيها في الهواء..في أذهاننا فتمدنا بالفخر والشجاعة أو بالسلوي والعزاء. خذ عندك.. الصهيونية، القومية العربية. الدولة اليهودية .. الدولة المسيحية.. الدولة الإسلامية. الجنس الآري السامي. الديكتاتور العادل. الاشتراكية. الوحدة العربية. الحرب المقدسة. صكوك الغفران التي ستدخلنا الجنة. وأولياء الله الذين مازلنا نكتب لهم الرسائل يوميا. مليارات البشر عبدوا أصناما من الطين والحجر والعجوة والذهب صنعوها بأيديهم، وأنتجت كل هذه الأوهام حروبا قتلت أعدادا مهولة من البشر، وخلقت أيضا أروع الأعمال الفنية والأدبية وأحيانا حفزت الاكتشافات والاختراعات العلمية. ثم دخل الإنسان في عصر جديد بدأ فيه يفرق بين العلم والخرافة، الحقيقة والوهم. شيئا فشيئا راح يعتمد علي الواقع الملموس، ويبني عليه أعماله ويحاول التنبؤ عن طريق العلم بالمستقبل القريب ليعمل حسابه. لكننا في هذه المنطقة من الدنيا مازلنا نعشق الشعر. وقديما قيل أن ( أجمل الشعر أكذبه)، وبهذا نكون كلنا شعراء!. الصدق في الشعر يعني صدق أحاسيس الشاعر لا يعني صدق الواقع بالضرورة. و أحاسيسه هي ما يتوهم أنها الحقيقة لا الحقيقة فعلا والفرق كبير لكننا لا نهتم به، المهم أن تكون القصيدة رائعة وهي رائعة عندما تتحدث عن جمالنا وقوتنا وعراقتنا وكل ما نتمناه في أنفسنا ونحلم به لأولادنا ونتخيل فيه أجدادنا علي أحسن صورة. حقا نتصارع نهارا ونسب بعضنا فنستخدم أبشع الكلمات وأفظع الاتهامات، لكننا في المساء نحب أن نسمع الشعر ونحب أن نردده دون ملل. لا أقصد الشعر الذي هو فن من فنون الأدب، بل الشعر الذي هو فن من فنون الجهل المصحوب بجنون العظمة.. الشعر الذي أقصده هو ما نردده من أفكار وحقائق نعتمدها كأنها العلم الذي لا شك فيه. هي ما قاله الشعراء وكتاب المقالات وحاشية السلطان من رجال الحكم و رجال السياسة و رجال الأعمال! نعترف بأن العالم الغربي تقدم عنا كثيرا (ننسي دائما العالم في آسيا) ولكننا نتميز عن العالم بأننا نملك الحقيقة المطلقة التي توصلنا لها قبل الجميع وستظل هكذا حتي يوم الحساب، نشكو التحرش الجنسي نهارا وعلنا في شوارع مصر التي كانت أم الدنيا ولكننا نؤمن في نفس الوقت أن أخلاقنا أحسن من أي بشر في الدنيا. فتراثنا الشعري عربي وليس مصريا، والعرب أنتجوا شعرهم عندما كانوا يعيشون في قبائل فتمدح كل قبيلة نفسها وتذم القبائل المجاورة، تتغني بانتصاراتها علي القبائل الأخري وكأن كلهم انتصروا علي بعضهم ولم يهزم أحد منهم! عشنا في هذا الوهم لقرون كثيرة وما زلنا، من يعرف الحقيقة يسكت لأنه يفضل السلامة، أو يكذب فيشارك في نشر الوهم. الكثير من أغانينا جميلة فالوهم دائما أجمل من الواقع. ما أجمل (إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب) هكذا وصلنا لديمقراطية لم يعرفها أحد. (يا أهلا بالمعارك يا بخت من يشارك) هكذا تحدينا أعتي القوي وسطرنا هذا في تاريخنا المجيد وما زال باعتبار أن الأغاني تسجل الحقيقة، ما أجمل قصيدة أمل دنقل (لا تصالح ولو منحوك الذهب.. لا تصالح علي الدم.. حتي بدم !). ثم تصالحنا وثبت أن هذا كان أفضل. ولكن القصيدة تظل جميلة لهذا مازال البعض يغنيها لأنها تعبر عن أحلام وأمان فالشعر عندنا تعويذة سحرية يمكنها أن تجعل من السراب ماء.