زمان كان الناس يشاهدون التليفزيون ويكثرون من مشاهدة المسلسلات وبخاصة في شهر رمضان، وينامون يحلمون بعالم المسلسلات من كثرة مشاهدتها.. وكانت الشكوي العامة هي اختلاط أبطال المسلسلات إذ إن ممثلاً واحداً يقوم بعدة أدوار في عدة مسلسلات، فينسي المشاهد وقد يختلط عليه الأمر عندما يتابع أحداث المسلسلات ولا يتذكر أكان هذا الممثل أحمد بالأمس وصار سليمان اليوم؟.. أما الآن فقد صدقت نبوءة (ديفيد فوستر والاس) الأديب الأمريكي المنتحر. كان والاس مؤمنا بأن الحياة الأمريكية الاستهلاكية قد اختلط فيها عالم الواقع بعالم الخيال من خلال الإعلانات.. ولم يعد الأمريكيون قادرين علي التفريق بين ما هو واقعي وما هو خيالي.. بل صاروا يسعون وراء أحلام خيالية لا تقبلها أرض الواقع، ويلهثون وراء تحقيق آمال ما هي إلا مجرد سراب. وهذا هو ما يحدث للمشاهد المصري الآن بعد محاولة متابعة حلقتين مثلا من مسلسلين رمضانيين متتاليين.. فعلي معظم القنوات يتم قطع المسلسل خمس مرات تقريبا، وفي كل فاصل يقدمون لك حوالي خمسة عشر إعلانا تقريبا.. وينتقل المشاهد من قصور السيراميك إلي بحار الشيكولاتة، ومن موائد المأكولات الشهية بالسمنة الفلانية إلي عالم الاتصالات بألوانه المختلفة إلي عالم المقرمشات وشطرنجه.. ثم تدوخ رؤوس المشاهدين في البحث عن السيارات الفارهة.. ليذهبوا بها إلي الشاليهات في المصايف الفاخرة.. ثم يعودون للسكني في الفيللات الراقية أو الشقق المترامية في المدن الجديدة. ولا يعيد المشاهد المسكين إلي أرض الواقع الحزين سوي إعلانات تبرع للمستشفيات والمرضي، وأحسبها صح، وصحة المرأة، وبنك الطعام، والضرائب بدلا من السجن، وامسك حرامية السكة الحديد.. وهي إعلانات حميدة لأنها تمسك ب (تلابيب) المشاهد المحلق في سماء الأحلام و(تهبده) أرضا.. ولكن مشكلة الإنسان دائما هي أنه يلاحق الأجمل ويسعي وراء الأفضل.. لذلك يعود المشاهد إلي الأحلام الإعلانية، ويغرق فيها حتي أنه قد ينسي المسلسل من كثرة الإعلانات وزيادة جرعتها. ومن مشاكل الإعلانات الكثيرة هي عدم معرفة ما تعرضه القناة من برامج أو مسلسلات.. فغالبا ما ننتقل بين القنوات بحثا عن مسلسل ما فنجد إعلانات علي كل القنوات التي تعرض المسلسل.. ولذلك اقترح أن يعرض علي الشاشة اسم البرنامج أو المسلسل الذي يتم عرضه بصورة دائمة طوال فترة العرض والإعلانات التي تتخللها، بحيث يتمكن المشاهد من معرفة ما تعرضه القناة خلال مشاهدته الإجبارية للفقرة الإعلانية. زمان كان يا تليفزيون يا.. وكان التليفزيون ببرامجه ومسلسلاته وأفلامه ومذيعات الربط والإعلانات.. أما الآن فيا إعلانات يا.. والتليفزيون كله إعلانات بكل قنواته وبدون مذيعات ربط وكل مسلسلاته وبرامجه لخدمة الإعلانات ومن صنع الإعلانات وهدف عرضها هو قطعها بفواصل إعلانية.. لقد انتحر والاس لأنه ظل يصرخ لمدة ما يقرب من ثلاثة عقود داعيا الناس للبعد عن الاستهلاك الإعلاني، ولم يسمع له أحد.. ولو كان انتظر قليلا لشهد الأزمة الاقتصادية وتحقيق نبوءاته بنفسه.