سباق مع الزمن تخوضه الدولة فى السنوات الأخيرة لإعادة إحياء قلب القاهرة التاريخى، وتحويل مناطقها الأثرية، بخاصة القاهرة الفاطمية، إلى متحف مفتوح يعكس عظمة الحضارة المصرية فى عصورها المختلفة. هذا التوجه يأتى ضمن استراتيجية شاملة لحماية التراث العمرانى واستعادة الهوية التاريخية للمدينة، بالتوازى مع تنفيذ مشروعات تطوير كبرى. ويعد الجهاز التنفيذى لإحياء القاهرة الإسلامية والفاطمية أحد أهم الأذرع المسئولة عن تنفيذ هذه الرؤية، تحت إشراف وزارة الإسكان وبالتعاون مع وزارة الآثار، وهو الجهاز الذى يقوده اللواء دكتور مهندس مدحت عبدالرحمن مصطفى، الذى تحدث عن الدور الحيوى الذى يضطلع به وفلسفة العمل الدقيقة التى تحكم التعامل مع المنشآت الأثرية. تطوير القاهرة التاريخية يؤكد رئيس الجهاز أن «جهاز الفاطمية» هو الجهة التنفيذية الرسمية الوحيدة المختصة بترميم الآثار وفق معايير استراتيجية التنمية المستدامة للمناطق التراثية، بما يضمن إحياء المناطق التاريخية وإعادة توظيفها دون المساس بطابعها الأثرى. وقد أنشئ الجهاز خصيصًا لتنفيذ برنامج شامل للحفاظ على القاهرة الإسلامية والفاطمية، اعتمادًا على دراسات أثرية ومعمارية متعمقة، وبمنهج هندسى دقيق يجمع بين الحفاظ والصيانة وإعادة الاستخدام. مشروعات تنفذ فى قلب التاريخ يشرف الجهاز على مجموعة واسعة من مشاريع الترميم التى تستهدف مواقع تُعد من أهم مناطق التراث العالمى المسجلة لدى اليونسكو، ومنها ما اندثر منه الكثير عبر الزمن. وتشمل المشروعات الجارية حاليًا: «سور القاهرة الشمالى، وكالة قايتباى، منزل زينب خاتون، قصر السكاكينى، وحفائر الفسطاط». كما يستعد الجهاز لتنفيذ مشروعات جديدة من بينها: «السور الجنوبى، ووكالة بازرعة». وهى أعمال تسهم فى استعادة الوجه الحضارى للقاهرة التاريخية وإبراز قيمتها. آليات التعامل مع المبانى الأثرية يشدد اللواء مدحت عبدالرحمن على أن العمل فى المبانى الأثرية يختلف جذريًا عن أى أعمال إنشائية عادية، إذ يتطلب دراسة أسلوب البناء فى عصره وتحديد المواد الأصلية المستخدمة. ويبدأ العمل من مرحلة التوثيق الشامل (الفوتوغرافى والمعمارى والمساحى)، ثم ترقيم وتكويد الأثر، وصولًا إلى مراحل الترميم والدعم الإنشائى. وتتضمن عمليات الترميم فحوصات متخصصة للمواد الخشبية والحجرية والجداريات، بالإضافة إلى إعداد مونة مطابقة لمكونات البناء الأصلى، وذلك بهدف الحفاظ على الطابع الأثرى دون أى تغيير أو تشويه. ويتم تنفيذ هذه الخطوات بالتعاون الكامل مع وزارة الآثار، المسئولة عن تقديم الخلفية التاريخية والموافقة على الأساليب الفنية لتوثيق وترميم كل عنصر أثرى. تنسيق كامل يؤكد رئيس الجهاز أن هناك تنسيقًا دائمًا مع وزارة الآثار، إذ تتطلب المشروعات الأثرية كوادر بشرية متخصصة فى مجالات الهندسة والميكانيكا والكهرباء والمعمار وغيرها. وقد أسهم الجهاز منذ إنشائه فى تخريج خبرات نادرة فى هذه التخصصات، نظرًا لطبيعة العمل الدقيق الذى يتطلب مهارات غير تقليدية. الصيانة.. خطوة مهمة لحماية التاريخ يشدد رئيس الجهاز على أن الصيانة والحماية المدنية ركن أساسى فى أى مشروع تطوير، حيث يتم تقييم نظم مكافحة الحريق ووضع حلول حديثة غير تقليدية تتناسب مع طبيعة المبانى الأثرية دون التأثير على قيمتها المعمارية. ويتم ذلك أيضًا بالتنسيق الكامل مع المختصين ووزارة الآثار لضمان الحفاظ على المواقع التاريخية ضد أى مخاطر مستقبلية.
وكالة قايتباى.. أثر مملوكى أعيدت إليه الحياة فى قلب الجمالية، وعلى مقربة من شارع باب النصر، يقف مبنى وكالة قايتباى كأحد أبرز الشواهد الحية على روعة العمارة المملوكية. هذا المبنى الذى أمر السلطان الأشرف قايتباى بتشييده فى عام 885 ه / 1480-1481م كان فى الأصل مخزنًا تجاريًا واسعًا يخدم حركة التجارة داخل القاهرة القديمة، قبل أن يصبح أحد أجمل النماذج الباقية للوكالات الإسلامية. ورغم مرور قرون على بنائه، فإن للوكالة حضورًا مهيبًا لا يزال يفرض نفسه على المكان. فهى منشأة كبيرة تتكون من ثلاثة طوابق: «طابق أرضى كان مخصصًا للحواصل التجارية، وفوقه طابقان متكرران خُصّصا قديمًا لإقامة وإعاشة التجار الوافدين إلى القاهرة». ومع بروز أهمية الحفاظ على التراث العمرانى للقاهرة التاريخية، جاء مشروع ترميم وإعادة تأهيل وتوظيف الوكالة ضمن أولويات الجهاز التنفيذى لإحياء القاهرة الإسلامية والفاطمية. لم يكن الهدف مجرد إنقاذ مبنى أثرى، بل إعادة ضخ الحياة فى واحد من أهم معالم القاهرة القديمة، عبر تحويله إلى فندق يحمل روح المكان وهويته المملوكية، ويطل مباشرة على واحدة من أغنى المناطق الأثرية. وبحسب المشروع الجديد، أعيد تشكيل الطابق الأرضى ليضم منطقة استقبال، مطاعم، مكاتب إدارية، ومساحات خدمية تعكس الطابع الأصيل للمبنى. أما الطابق الأول فأصبح يضم 12 جناحًا فندقيًا إلى جانب غرف خدمية مكملة، ثم يأتى الطابق الثانى ليكرر التوزيع نفسه، محافظًا على التناسق التاريخى للمكان. وعلى السطح، وُضعت لمسات حديثة مدروسة بعناية، حيث أُنشئت مطاعم ومساحات خدمية للنزلاء تمنح الزائر مشهدًا بانوراميًا نادرًا للقاهرة التاريخية، فى مزيج فريد يجمع بين الراحة الفندقية ورائحة الزمن المملوكى. وبذلك تتحوّل وكالة قايتباى اليوم من مبنى تجارى قديم إلى فندق أثرى نابض بالحياة، يعيد للمنطقة شيئًا من روحها القديمة، ويقدم نموذجًا يحتذى فى إعادة توظيف التراث دون المساس بجماله الأصلى. زينب خاتون.. سيدة البيت الذى خبّأ التاريخ واحتضن الفدائيين فى قلب القاهرة التاريخية، وبين الأزقة الضيقة التى تفوح منها رائحة الزمن القديم، يقف منزل زينب خاتون كحارس صامت للتاريخ؛ جدرانه تتنفس ذاكرة مدينة كاملة، وحجارته تحفظ أسرار نساء وسلاطين ومجاهدين مرّوا من هنا، ثم اختفوا وبقى البيت وحده شاهداً على العصور. بيت الأميرة شقراء شُيّد المنزل عام 1486م لاستقبال الأميرة شقراء هانم، حفيدة السلطان حسن بن قلاوون، وظل مقرًا ملكيًا حتى دخول العثمانيين عام 1517م. وبعد قرنين، خضع لعملية تجديد كبرى سنة 1124 ه / 1712م، قبل أن تتعاقب عليه الأسر والعائلات حتى استقر فى يد السيدة زينب خاتون فى أوائل القرن التاسع عشر، فارتبط البيت باسمها إلى اليوم. لكن زينب لم تكن مجرد مالكة، بل تحولت إلى رمز مقاومة، إذ فتحت أبواب منزلها للفدائيين والجرحى خلال الاحتلال، تخفيهم داخل أروقته العالية وممراته السرية، حتى صار البيت جزءًا من حكاية نضال المصريين. وبعد وفاتها، ظل المنزل محتفظًا بروحه حتى ضمته وزارة الآثار عام 1942م. عمارة مملوكية تكشف ذكاء العمران القديم يمثل المنزل نموذجًا نادرًا للعمارة المملوكية؛ فالمدخل المنكسر يمنع عين الزائر من رؤية الداخل مباشرة، فى تطبيق صارم لفلسفة الخصوصية فى البيوت الإسلامية. يمتد المبنى على مساحة 600 متر مربع، بثلاثة طوابق تتوزع بشكل متناسق بين فراغات مغلقة وأخرى مفتوحة، تمنح القاطنين إشراقًا طبيعيًا ومناخًا لطيفًا، رغم حرارة القاهرة القاسية. من سكن تاريخى إلى مركز ثقافى ومع مشروع تطوير القاهرة التاريخية، جرى التفكير فى إعادة توظيف منزل زينب خاتون كمركز للمناسبات والمؤتمرات، اعتمادًا على تنوع قاعاته واتساع مساحاته. فالدور الأرضى أصبح مزارًا سياحيًا يضم كافيتريا ومكاتب إدارية، بينما يحتضن الدور الأول قاعة الحرملك الكبير، وصالون المقعد الصيفى، وقاعة مؤتمرات المقعد الشتوى. أما الدور الثانى فخصص لصالونات ثقافية وقاعات مفتوحة، تتيح للزوار إطلالة آسرة على مآذن القاهرة، فى مشهد يجمع الأزهر والقلعة وسور المدينة القديم فى خلفية واحدة. كنز حقيقى تحت العتبة منزل زينب خاتون ليس مجرد أثر معمارى؛ فهو حرفيًا منزل كنز، وخلال أعمال التجديد عام 1410 ه / 1989م، اكتُشف كنز ضخم مدفون داخل جرّتين فخار تحت عتبة إحدى الحجرات. ضم الكنز 3611 قطعة نقد ذهبية تعود إلى القرن التاسع الهجرى/ الخامس عشر الميلادى، إلى جانب أكثر من 2500 قطعة ذهبية أوروبية مضروبة فى إيطاليا وإسبانيا والبرتغال والمجر، وكانت متداولة فى الأسواق المصرية آنذاك. بيت يبقى وشخصية تتكون يظل منزل زينب خاتون واحدًا من أبرز شواهد القاهرة المملوكية؛ بيت جمع بين الأرستقراطية والنضال، بين الفخامة والسرية، وبين التاريخ والكنز. إنه منزلٌ لم تكن جدرانه مسكنًا فقط، بل حصنًا للفدائيين، وذاكرة للعصور، وحكاية تروى كلما مرّ الضوء فوق مشربياته العتيقة. Untitled-1