مرتان تابعنا فيهما ما ورد حول أهالى «بولاق ابو العلا» خلال أحداث ثورة 25 يناير.. فى الأولى كانت مأساة ماسبيرو التى راح ضحيتها 26 شهيداً.. أما الثانية فقد كان مسرحها ماسبيرو أيضا.. وفى كل مرة زعموا أن أهالى «بولاق أبو العلا» خرجوا لمطاردة الثوار.. فى الأولى ابتلع أهل تلك الضاحية العريقة والعظيمة تلك الكذبة.. أما فى الثانية فقد خرجوا ليعبروا عن غضبهم وسخطهم، وتمكنوا من حماية الثوار والدفاع عنهم.. صرخوا بأعلى الصوت نحن الذين كنا فى طليعة الثوار يوم 25 يناير من العام 2011. ضاحية «بولاق أبو العلا» لها تاريخ عظيم.. لن أخوض فى القديم من عند ثورتهم على الحملة الفرنسية قبل أكثر من قرنين.. لن أذكر تاريخ زعيم الثوار «الحاج مصطفى البشتيلى» الذى دوخ الفرنسيين.. فما كان منهم إلا أن افتروا عليه، ودقوا اسفينا بينه وبين أهله فجعلوهم ينقلبون عليه.. لكننى سأتوقف عند «بولاق أبو العلا» من عهد «محمد على» العظيم إلى زمن «المخلوع» الذى كان مكلفا بتنفيذ مؤامرة على مصر امتدت منذ أن تولى السلطة قبل 30 عاما.. فمن «بولاق أبو العلا» كانت النهضة والثقافة ومعرفة قيمة التنوير وأهمية الكلمة.. وتقف مطبعة بولاق وعمرها يقترب من قرنين من الزمان، لتروى حكاية اختيار «محمد على» للمكان واهتمامه بأن تكون تلك الضاحية عاصمة للطباعة وتجليد الكتب ونشر التعليم والثقافة وفتح المدارس.. اهتم «محمد على» بتأسيس الجيش وإطلاق ثورة فى التعليم.. وكانت «بولاق أبو العلا» مركز تلك الدائرة.. واستمرت الضاحية تمثل قطعة ماس فى تاريخ مصر.. ومنها عرف العالم ودارت المطابع على أعظم الكتب التى لا تخطئها ذاكرة الإنسانية.. لو عرفنا أن كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، ومقدمة ابن خلدون.. كانت طباعتهما الأولى فى ضاحية «بولاق أبو العلا» بالتأكيد سنعلم أن أعمال الجاحظ والمتنبى وابن حيان وابن سينا وابو حامد الغزالى كانت طباعتها الأولى فى هذا الحى العريق.. أى أن «بولاق أبو العلا» كمصدر من مصادر التنوير.. وتاريخها الذى يؤكد أن أهلها ثوار بالفطرة.. لا يمكن لهم إطلاقا أن يكونوا «بلطجية» يخرجون لمواجهة ثوار 25 يناير.. وقد عشت حول تلك الضاحية لأكثر من 30 عاما.. عرفت فيها شهامة الرجال وكبرياء النساء.. راقبت الذكاء ينطق فى عيون أطفالها.. وفى شوارع تلك الضاحية تعيش الليل فى أمان النهار.. وتعيش النهار بطعم لا يتكرر فى غيرها.. داخل مصر أو خارجها. ضاحية «بولاق أبو العلا» التى عرف قيمتها الوالى «محمد على» وقدرها حق قدرها.. اهتم بها أحفاده وأهله من الذين حكموا مصر، سواء فى عهود الخديو سعيد أو اسماعيل أو توفيق بل وحتى فى زمن الملك فؤاد ومرورا إلى أن وصلنا إلى عهد ثورة 23 يوليو.. فقد كانت تلك الضاحية محط اهتمام الزعيم «جمال عبد الناصر» الذى أصدر قرارا بقانون بإنشاء الهيئة العامة للمطابع الأميرية عام 1956، وجعل المهندس «عزيز صدقى» رئيسا لمجلس إدارتها – قبل أن يصبح رائد الصناعة المصرية ورئيس وزراء – وبقيت تلك الضاحية شامخة تحمل من معانى الكبرياء الكثير.. ثم تدهور بها الحال فى منتصف السبعينيات.. حتى كان أن تولى «المخلوع» وشهرته حسنى مبارك مسئولية هدم مصر وطمس تاريخها.. تعامل معها كما لو كان بينه وبين تاريخها ثأر عميق.. تجاهل متحف المركبات الملكية الذى يرجع تاريخه إلى عهد الخديو إسماعيل.. ثم تذكره فى عام 2007، فقرر ترميم هذا المتحف.. أنفقوا عليه 25 مليون جنيه دون أن ينتهى حتى الآن.. ولا أعرف سر ذهابه إلى تلك الضاحية وادعائه الاهتمام بهذا المتحف الذى لا يوجد له مثيل سوى فى فرنسا وروسيا وانجلترا.. ربما لتمتد له يد النهب والسرقة خاصة أنه يضم 67 عربة ملكية نادرة بينها واحدة كانت هدية من «نابليون الثالث» والملكة «أوجينى».. وتلك العربة كان يستخدمها الملك «فاروق» فى رحلته للبرلمان وركبها يوم زفافه.. وظنى أن أكثر من 6آلاف قطعة ملابس أثرية عظيمة كانت محط اهتمام لصوص هذا الزمان.. ولن أحدثكم عن كوبرى ابو العلا الذى يعتبر كل جزء فيه قطعة أثرية.. فقط أرجوكم اسألوا الدكتور «فتحى البرادعى» وزير الإسكان الحالى.. فهو وقت عمله كمحافظ لدمياط فوجئ بأن اللصوص سرقوا جزءا من هذا الكوبرى ونقلوه عبر النيل، وادعوا أنهم اشتروه بالكيلو.. هنا انزعج سيادة المحافظ وقرر أن يصادر تلك المشتروات ثم استعان بالمبدعين فى الوطن.. فإذا بهم يحولون جزءا من كوبرى أبو العلا إلى واحد من أهم المعالم الثقافية على نيل دمياط.. تستطيع أن تخطف نفسك فى رحلة لترى هذا الجزء من الكوبرى وقد تحول إلى قاعة مؤتمرات وندوات وسينما ومرسم للفنانين التشكيليين. هذا عن بولاق التاريخ أما عن المواطن فى تلك الضاحية فحدث عنه ولا حرج.. فقد راهن عليهم «مصطفى وعلى أمين» وقررا بناء مؤسسة أخبار اليوم وسط أحضانهم.. كذلك فعل عبد الناصر بمبنى الإذاعة والتليفزيون.. كانوا يعلمون أن المواطن فى تلك الضاحية نام فى حضن الحضارة.. وشرب من نهر الثقافة.. ويعلم قيمة التنوير.. فأهل بولاق هم أهل التنوير والتدين المصرى الوسطى الذى شرب من نهر السلطان «ابو العلا» والشيخ «مصطفى البرلسى».. ليجعلهم نموذجا للمواطن المصرى فى قديمه وحديثه.. قبل أن يحل علينا هذا «المخلوع» ويفسح الطريق لعملاء الوهابية لكى يجتاحوا الوطن! إن شئت أن أتحدث عن «بولاق أبو العلا» وأهلها باختصار أحتاج إلى صفحات.. لكننى أتوقف لأقول إن ورثة الثورة والثوار، لا يمكن لهم أن يكونوا فى يوم من الأيام بلطجية.. لكن «حسنى مبارك» الذى أطلق عليهم لواء شرطة لن أذكر اسمه لأنه رحل عن دنيانا.. لم يتمكن من تشويه سمعة أهلها.. فإذا بالفلول ورجال الثورة المضادة يحاولون مواصلة مسيرته.. لكن بولاق وأهلها ستبقى أكبر بكثير من أى محاولة لتشويهها.