كطائر العنقاء وهو يخرج من الرماد، كنت أبدو بعد أن قضيت أياما طويلة فى «الكردون المنزلى»، انظر إلى الخارج، فأجد الظلام يدور حول البيوت، ونسمة رقيقة تعبر أمامى لكنى أغلق فى وجهها الشباك خوفا من أن تحمل على اجنحتها الوباء، خاصة وأنا أرى كل الجهود التى تبذل لمواجهته تبدو وكأنها جهد «سيزيفى» لا نهائي، فقط اتمسك بالأمل والدعاء إلى الله، وأراهن على الإفهام والوعى والمستقبل. فى الخارج كانت الريح تقول كل شىء، كانت الاشجار ترتعش من وحدة طالت ..صدى صوت يأتى من بعيد يغنى للحياة بعد أن خلت الشوارع، وتعطلت المطارات، وأغلقت المولات والمقاهى أبوابها، تراوحت انفعالاتى بين الدهشة والخوف والحذر والشك والشعور بالقلق، فهى ليست مصادفة نادرة الحدوث ما نعيشه اليوم من انتشار لجائحة فيروس كورونا المستجد، لكنها انعكاسات من الماضى نراها فى الحاضر، فما أشبه الليلة بالبارحه، وما أشبه الكوليرا بالكورونا، نفس الخوف، الموت، الإجراءات الاحترازية، فالتاريخ يعيد نفسه، فقد شهدت المحروسة العديد من الأمراض والأوبئة التى حصدت أرواح المصريين من طاعون لمالاريا لكوليرا، كلها جاءت ومرت، لكنها تركت ندوبا فى نفوسنا، ففى لحظة الوباء تسقط المقولات الكبرى، والنظريات الفلسفية تعود الحياة إلى سيرتها الأولى، نلجأ إلى الفطرة ونحاول النجاة. قديما لم تكن هناك منصات للتواصل الاجتماعى، ولا رسائل قصيرة أو واتس اب، ولا فضائيات لتنقل لنا الأخبار، فقط كانت رائحة المرض التى تفوح من كل ركن.. جثث فى كل مكان، خوف وهوس من الاختلاط بالآخر، لم يكن هناك سوى الأدب الذى سجل لنا تلك المراحل التى قرأناها فى العديد من الأعمال، فكان مرأة حقيقة لواقع مؤلم، واقع «الناجى» منه كتب له عمر جديد، فقد كان الوضع غاية فى السوء حتى أنه قيل: «إذا دخل الوباء دارا يفنيها حتى يعلقوا مفاتيح الدار فى رجل النعش»، اللافت أن ما تحكيه تلك الأعمال نراه اليوم بتفاصيله مع اختلاف الزمن وتطور الحياة، بدء انتشار الوباء الذى يصاحبه استهتار من بعض الناس، زيادة حالات الوفاة الذى يرافقه الذعر والتأكيدعلى اتباع الاجراءات الاحترازية : «العزل المنزلى، استخدام المطهرات، التباعد الاجتماعى»، وأخيرا تلك النافذة الصغيرة، التى مهما صغر حجمها، إلا أنها تفتح آفاقاً واسعة فى الحياة، وهى الأمل الذى يتمسك به الإنسان.
الحكاية الأولى «أيام» طه حسين
فى سيرته الذاتية «الأيام» 1929، التى تعد وثيقة اجتماعية يتحول فيها طه حسين (1889 - 1973) إلى مؤرخ يعرض لانتشار وباء الكوليرا فى قريته مطلع القرن العشرين، ويصف لوعة أهل بيته بموت أخيه الأوسط طالب الطب بالوباء، ويقول: « كان هذا اليوم يوم 21 أغسطس من سنة 1902، وكان الصيف منكرا فى هذه السنة، وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا، دمر مدناً وقرى ومحا أسرا كاملة، وكان سيدنا قد أكثر من الحجب، وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت، وكان الأطباء رسل مصلحة الصحة قد انبثوا فى الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحتجزون فيها المرضى»، هذا هو وصف طه حسين لبداية الشعور بالوباء، ويحكى كيف أن كل أسرة كانت تنتظر حظها من المصيبة، ويعرج على حكاية أخية ذو الثمانية عشرا عاما الذى انتسب إلى مدرسة الطب، وأخذ يرافق طيب المدينة وكان أحد ضحايا هذا الوباء، وهو ما يشير إلى أنه بالتأكيد كان هناك ضحايا من الأطباء وقطاع التمريض فى ذلك الوقت تماما كما نعيش الأن، ويقول: أقبل الشاب كعادته باسما فلاطف أمه وداعبها وقال، لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة، وقد أخذت وطأة الوباء تخف،ولكنه مع ذلك شكا بعض الغثيان وخرج إلى أبيه « ويستمر فى وصف ما قام به أخيه فى ذلك اليوم حتى جاءالليل وجلس مع أخوته ينصحهم بأكل الثوم كوقاية من الكوليرا، ثم يصف لحظات الألم والفراق التى عاشتها الأسرة، ويقول: « كانت الدار هادئة مغرقة فى النوم، لكن صيحة غريبة ملأت هذا الجو الهادئ فهب لها القوم جميعا ..كان مصدر هذا كله هو صوت الفتى وهو يعالج القيء، وكان الفتى قد قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف أصابعه ويمضى إلى الخلاء ليقىء مجتهدا ألا يوقظ أحدا، حتى بلغت العلة منه أقصاها لم يملك نفسه ولم يستطع أن يقيء فى لطف فسمع أبواه هذه الحشرجه ففزعا لها وفزع معمها أهل الدار جميعا». ويستمر عميد الأدب العربى فى وصف حال أهل الدار وهم ينظرون إلى ابنهم والمرض ينهش فيه جسده، حتى حضر الطيب إلى البيت ويقول: «انصرف الطبيب من الحجرة بائسا وكأنه أسر إلى رجلين من أقرب أصحاب الشيخ إليه بأن الفتى يحتضر فأقبل الرجلان حتى دخلا الحجرة على الفتى ومعه امه ظهرتفى هذا اليوم لأول مرة فى حياتها أمام الرجال، والفتى فى السرير يتضور: يقف ثم يلقى بنفسه ثم يجلس ثم يطلب الساعة ثم يعالج القيء وأمه واجمة والرجلان يواسيانه وهو يجيبهما: لست خيرا من النبى.. أليس النبى قد مات واضرب الفتى قليلا ومرت فى جسمه رعدة تبعها سكوت الموت، وأقبل الرجلان إليه فهيأه وعصباه وألقيا على وجهه لثاما..وما هى إلا ساعة أو بعض ساعة حتى هيء الفتى للدفن وخرج الرجال به على أعناقهم».
الحكاية الثانية «صفقة» توفيق الحكيم
توفيق الحكيم (1898 - 1987) أتى أيضا على ذكر وباء الكوليرا فى مسرحيته «الصفقة»، 1956، والتى تدور حول الصراع بين الفلاحين والاقطاع فى قرية من قرى مصر حيث ينوى الفلاحون شراء قطعة أرض أرادت أحدى الشركات الاجنبية أن تبيعها، فجمع أهل القرية المال اللازم لشرائها وتوزيعها فيما بينهم، وبينما هم يعدون العدة لاستكمال الصفقة اذا بهم يسمعون عن وصول اقطاعى المنطقة حضر لشراء قطعة الارض، وهنا يأتى دور الخدعة التى قامت بها الفلاحة النجيبة «مبروكة» حتى تسمح ل»خميس» أفندى ليقوم بتسجيل الأرض دون أن يعرف «حامد بك»، فقد أوهمت «مبروكة» الأقطاعى القادم من القاهرة وطلبها كى تكون خادمة فى بيته أنها مصابة بالكوليرا حين راحت تستفرغ، وجاء الطبيب ونقلها للعفنه «المستشفى»، الأمر الذى أفزع أهل بيت حامد بك، فراحوا يصرخون ويستفرغون متوهمين أنهم مصابون بالكوليرا، وقامت الصحة بعزل البيت وفرض كردون حوله، يمكننا أن نرى هنا مدى الرعب الذى كان يعش فيه الأهالى من الوباء، وكيف أنهم يمكن أن يقعوا فريسة للوهم لمجرد أنهم شاهدوا مصابا حتى ولو كان يخدعهم.
الحكاية الثالثة سفينة «الناجى» الوحيد
يرى الفيلسوف الألمانى «جورج هيجل» أن العقاب انتقام، لكنه انتقام عادل، لأن المرء يحصد نتيجة عمله باختياره، تلك هى الرؤية التى تبناها عاشور الناجى بأن الوباء جاء على الحاره غضب من الله، تلك هى تفاصيل الوباء فى المدينة يرويها كاتبا الكبير نجيب محفوظ (1911– 2006)، فى ملحمة «الحرافيش» 1977، حيث يفر بطل الرواية بأسرته إلى الخلاء، ليعود بعد زمن ويجد البيوت جميعها خالية بعدما مات أصحابها، فيختار ما شاء منها، ويصبح سيد الحارة ويقيم فيها العدل وتنعم بالرخاء. يحكى الراوى أن عاشو الناجى قرر أن يبحث عن الخلاص له وأسرة وسكان الحارة من «الشوطة» التى راحت تحصد الأرواح، كما تُحصد عيدان القمح فى الحقول، أجساد تتساقط على الأرض بعد أن يصيبها قيء وإسهال مثل الفيضان بعدها ينهار الشخص ويلتهمه الموت الذى لم يفرق بين غنى وفقير، ويقول: «حتى بيوت الأعيان لم تسلم، فها هى حرم البنان توفيت صباح اليوم»، حتى أن القبور لا تكاد تغلق حتى تفتح مرة أخرى». أراد الناجى أن يطبق العزل، لكن ليس فى المنزل، بل الصحراء بعيدا عن الحارة التى خيم عليها الموت، بعد أن اعتبر أن ما يحدث هو غضب من الله، فقد رأى فى المنام ملاكا يأمره أن يهجر الحارة اتقاء للوباء، ودعا الناس إلى الهجرة، لكنهم سخروا منه، حتى أولاده لم يستمعوا إلى نصيحته ولم يرافقه، إلا زوجته الثانية «فلة» وابنه شمس الدين، وبنى سفينة نجاته على الكارو وحملها بما استطاع من زاد واتجه إلى كهوف الجبل، بعد أن رفض شيخ الحارة أن يُخرج معه الأهالى، ويقول الراوى: (تفاقم الأمر واستفحل. دبت فى ممر القرافة حياة جديدة...يسير فيه النعش وراء النعش... يكتظ بالمشيعين. وأحيانا تتتابع النعوش كالطابور. فى كل بيت نواح. بين ساعة وأخرى يعلن عن ميت جديد.. لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غنى وفقير، قوى وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل. إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء. وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار ولهجت أصوات معولة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين. ووقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت. وبوجه مكفهر راح يقول : إنها الشوطة، لا يدرى أحد من أين؟ تحصد الأرواح إلا من كتب له الله السلامة. وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلا، ثم مضى يقول : اسمعوا كلمة الحكومة ..أنصت الجميع باهتمام، أفى وسع الحكومة دفع البلاء؟.. تجنبوا الزحام..فترامقوا فى ذهول.. حياتهم تجرى فى الحارة، والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفى الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ ولكنه قال موضحًا: تجنبوا القهوة، والبوظة، والغُرَز.. والنظافة.. النظافة). ويصف محفوظ كيف أن الأهالى لم يهتموا بكلام شيخ الحارة وأخذوا يسخرون « وتفرق الحرافيش فى الخرابات وهم يتبادلون الدعابات الساخرة.
الحكاية الرابعة الحظر على طريقة «تعلبه»
حينما يقترب الخطر لا يمكن التفرقه بين الجاهل والمتعلم، بين الريف والمدينة، الكل فى لحظة واحدة يرفع شعار «يا روح ما بعدك روح»، ويبدأ فى اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية التى يرى أنها قد تكون السبب فى نجاته من الوباء الذى تشكل ملامحة دائما نهاية العالم لولا رحمه الله بعبادة، ففى رواية «الوتد» للكاتب خيرى شلبى « 1938 - 2011» التى تحولت إلى عمل درامى شهير، قامت فيه «فاطمة تعلبة» بكل سلطاتها التنفيذية التى تمارسها على تلك الأسرة الريفية الممتدة بفرض كافة التدابير التى من شأنها أن تحميها وأولادها. تبدأ حكاية الوباء فى تلك القرية البسيطة حينما يسقط فلاح فى الغيط فيلتف حوله زملائه ويقولون: «باين جت له الكوليرا»، فيصعق من الخوف فتح الله ابن الحاجة فاطمة تعلبة، ويقول فى ذعر:» ده بيقولوا ده مرض معدى»، ثم يبدأ فى الجرى هربا نحو الدار، وتبدأ بعدها طوابير المرضى محمولين إلى المستشفى، فيقابل « الباشتمرجى الذى يرتدى الكمامة بعض الشباب وهم يحملون مريض وينهرهم قائلا: «ايه اللى بتعملوه فى روحكم ده»، فيردوا فى لامبالاة: «عادى راجل تعبان وبنساعده». فيحمل لهم المطهرات، ويقول: «افتحوا ايدكم ادعكوا قوى، عاوزكم تدعكوا جامد قوى طول ما انتم واقفين قاعدين نايمين، روحوا اخلعوا الهدوم بتاعتكم دى واحرقوها»، هنا يظهر وعى الباشتمرجى بخطورة هذا الوباء، ثم تأتى فاطمة تعلبه التى أعلنت حظر التجوال على أولادها داخل الدار، ثم أصدرت قرارات صارمة وقفت تعلنها فى اصرار وحزم، وكأنها تقول ل«الشوطة» لن أسمح لكى أن تأخذى فلذات أكبادى حتى لو وصل الأمر أن احبسهم فى حجراتهم: « كل واحد يخش جاعته ميطلعش منها أبدا، مش عاوزه أشوف خيال واحد فيكم على حيطة الدار، وهدومكم تجلعوها وتحرجوها،» فتتسأل زوجة الابن البكر: ونأكل ازاى» فترد تعلبه : من هنا ورايح هنأكل عيش ناشف وبصل والحاجه تتغلى لحد ما تتهرى، وكل فحل فيكم على الصبح يجرش له فصين توم، وكل واحد ياخد عياله فى حضنه ويسجيهم ليمون مغلى». تطرح «الوتد» فكرة الاختيار بين الخوف من الموت جوعان أوالموت من الوباء جراء البحث عن لقمة العيش، فنرى الزوجة التى تهرع مذعورة خلف زوجها الذى قرر مواجهة الشوطة حتى يطعم أولاده، وتسأله: رايح فين دلوقتى، فيرد : رايح اجيب حاجه للعيال تاكلها، وتقول: ياراجل حرام عليك الكوليرا بتاكل اللى ماشى فى البلد، فيجيبها: يعنى العيال يموتوا من الجوع»، ويتركها ويرحل، يرحل إلى مجهول ينتظره ويحرر نفسه من فكرة الخوف ويتمسك بالامل، فالإنسان يمكنه أن يعيش بلا بصر، ولكنه لا يمكن أن يعيش بلا أمل.