كنت أتابع كيف يسحب بهدوء أول الخيط الذي يتشابك في بكرة معقدة، ظلت تتكون علي مدي ستين عاما وتتجمع خيوطها وتلتف. شبكة لا أول لها ولا آخر من المتعاونين والخدّامين والمدافعين بالسلاح، والذين يزودون عن حصون الديكتاتورية العسكرية باللسان السليط الملوث. من يوم أن بدأ بالهجوم علي أول الخيط- مبارك وولده- بدأت البكرة في التداعي، تخرج كل يوم وجها جديدا قبيحا، يشهر سيوف لسانه متفوها بأرخص ما يقال عن «العميل» الحاصل علي نوبل. يخرجهما تباعا من حضن شبكة الحماية، فيسقطون تباعا في نظرنا ويهونون ويتهافتون ولا يزالون. بابتسامة شفافة ونظرة ثابتة مؤمنة، ينتقل في المواقع كطائر خفيف، يحتفظ بطرف الخيط في منقاره. وبعد استنفاد الصف الأول من كتبة مبارك وولده وأمناء الحزب الوطني المجحوم، يخرج من البكرة صفها الثاني والثالث. مستمرون في الزود عن حصون الاستبداد، يعرفونه رأسا لا بد من طيرانها، يستهدفونه بينما لا يدركون أن حركة الطائر تدفع بهم أكثر وأكثر خارج دفء الشبكة التي كمنوا داخلها طويلا. هو أيضا يعرفهم، بالتاريخ الأسود، وبأسلوب الأداء الأمني البوليسي المتردي المنحط، الذي يلبس ثوب حماية الدولة مرة، وثوب العلم مرة، وثوب الدين مرة أخري. البكرة كما قلنا طويييييييييييلة ومعقدة، ومن يرجع لأساسها يعرف أن تفكيك تلك البكرة هو تقريبا الهدف الباطن في عمق الثورة، الذي يسعي نحوه الجميع حتي لو لم يدركوا ذلك. دولة البوليس وأعوانها كانت هدف البرادعي الذي صوّب نحوه منذ اللحظة الأولي. وهي العقدة المتينة التي نقف الآن في مواجهتها مهما رحل رؤساء أو عساكر. والآن وهو يشير لهم أنه منسحب من معركة ظاهرية، هم يعلمون أن طرف الخيط المكرور مازال بين منقاره. وتكفي متابعة سريعة للصحف والبرامج تعليقا علي انسحابه لتبين علاقات القوي داخل الشبكة، وخريطة حلفاء ما بعد مبارك. نعم، البرادعي يشير لنا دائما نحو هؤلاء، تتبع مسار الخيط يكفي لتبيّن من هم أعداء الثورة، ولعله يكون طريقنا لمعرفة كيف نواجه هذا الخيط الذي لا ينتهي بنفس طويل وصفوف منظمة. يبقي الحكم علي دور البرادعي في ذمة تاريخ مازال يكتب حتي اللحظة، ومازال أمامنا وقت طويل حتي نعرف من فعل ماذا، بلا أحكام سريعة ولا شوق مكذوب لاستعراض معلومات وخفايا ولا تحليلات وراءها ما وراءها. ولكن يمكن دائما الحديث عن خدمات شخصية صغيرة غيّرت حياة نفر من الناس. أنا التي ابتعدت منذ 2006 عن نزول المظاهرات صغيرة الحجم، وفقدت إيماني بنخب روحها مجدبة وخيالها فقير، وكرهت بقائي في وسطها، ووجدت لنفسي ألف مبرر لأتكلم في السياسة وسط عائلتي وأصدقائي وفقط. أنا التي اخترق البرادعي بصرخة اليقين جدار يأسي، وفكك بكرة خيوطي أيضا، وهوت مبرراتي، ولعنت صمتي. أنا التي وجدتني فجأة أزداد ثقة أن «النظام ترتعد فرائصه» وأن «قطار التغيير غادر المحطة» وأن «النظام علي شفا الإنهيار». أنا التي ذهبت إلي المطار لاستقباله، وحصلت في المقطم علي علقة سخنة، وحاولت أن أنتظم في حملة ميدانية لدعمه، و بذلت من السياسة ما لم أبذله في عمري كله في 10 شهور. أنا التي نزلت أخيرا في 25 يناير للتحرير في الثانية عشرة صباحا فوجدته خاليا، فظللت أبحث في ميادين وسط البلد، وسط اليأس، فيفرجها الله بطوفان من البشر مازال لقاؤه لأول مرة يفرّج كروبي حتي الآن. وأنا الآن التي أطير فرحا كلما رأيت هؤلاء البنات والشباب في عائلتي، في العشرينات من العمر، لم يكونوا يتحدثون في السياسة يوما، ولا يفارقون نوادي البلاي ستيشن، يقومون بثورة، ويخلعون رئيس، ولا ينفكون يطالبون ببلادهم حرة مستقلة شريفة عادلة، ويحبون البرادعي. فنانة وباحثة مصرية