أغرقني حجازي في رسومه الكاريكاتورية المعبرة خمس سنوات.. فتلبستني شخوصه وأبطاله: الفقراء البسطاء.. الحشاشون.. المساطيل الظرفاء.. أولاد البلد.. أطفاله العفاريت «مقاصيف الرقبة».. بناته «المقطقطين الحلوين».. نسوانه «المربربين الملظلظين» موظفوه الخبثاء.. مديروه السمان المرتشون.. لصوصه الفاسدون المفسدون.. مواطنوه البلهاء عن «عمد».. عالم بأكمله زاخر «بالحداقة المصرية».. و«المفهومية».. والفهم العميق لكل ظواهر الحياة السياسية والاجتماعية.. إنها كائنات «حجازي» المدهشة، وحين تمكن مني كل هؤلاء الظرفاء. والأشرار معاً.. وطاردوني أينما ذهبت.. قررت أن أتخلص منهم جميعاً.. إذ رأيت أن أضعهم جميعاً في كتاب واحد.. وأحكم إغلاقه عليهم بغلاف متين.. وألقي بهم - وهم بداخله - إلي القارئ العزيز.. لعلي بذلك أكون قد تخلصت من كائناته التي سكنتني.. أو لعلكم إذا عثرتم عليهم في هذا الكتاب «القمقم».. ترون فيه أنفسكم والعالم كله.. فتقعون مثلي في عشق رسومه الكاريكاتورية المعبرة. والآن رحل حجازي ولكن ستظل كائناته المدهشة تتلبسني أينما ذهبت.. فإن من يترك وراءه هذا الكم العظيم من الرسومات الرائعة لا يموت أبداً.. فإلي اللقاء يا صديقي العزيز. رحيل سيد درويش الكاريكاتير المصري في هدوء شديد.. اختاره منذ سنوات طويلة، رحل سيد درويش الكاريكاتير المصري الفنان حجازي، الذي قرر اعتزال الكاريكاتير وحياة المدينة عائدا لذكريات طفولته بطنطا، الذي كان قرارا مفاجئا نظرا لما تميز به من غزارة في الإنتاج، فلقد أنتج عشرات الألوف من رسوم الكاريكاتير بالمجلات والصحف المصرية التي لم يحتفظ بأصولها! اختار حجازي رسم الكاريكاتير في وقت مبكر من حياته، فلقد جاء إلي القاهرة بعد إتمامه المرحلة الثانوية وكان يبلغ الثامنة عشرة وبدأ عمله في مجال الكاريكاتير عام 1954 عندما رسم في مجلة "التحرير" مع الفنان حسن فؤاد مكتشف موهبة حجازي الفنية، ثم انتقل إلي روزاليوسف وصباح الخير في عام 1956م مع كوكب المجموعة الفنية جاهين ونجومها بهجت وبهجوري ورجائي ليصبح في سنوات قليلة من أشهر رسامي الكاريكاتير في مصر والعالم العربي، حيث لفت أنظار قراء صباح الخير بسلسلة "ضحكات منزلية" التي احتلت من كل عدد الصفحة اليمني الأولي بعد غلاف المجلة، قدمت هذه الصفحة تفاصيل حياة العائلة الفقيرة كثيرة الأولاد، والتي تسكن غرفة واحدة ذات سرير واحد وطبلية واحدة ومصباح كيروسين معلق علي الحائط، وفضلا عن ذلك رسم حجازي كاريكاتيرات نشرت مع بعض الموضوعات الصحفية، ورسوما صاحبت موضوعات أخري، وتميزت تعليقاته بأنها بسيطة وغريزية، يقول عنها الراحل محيي الدين اللباد في كتابه "نظر" الجزء الثالث إن هذه الخلطة الفكاهية وهذا الأسلوب اللذين صكهما حجازي في كاريكاتيره لعلهما كانا المصدر الذي استفادت به مجموعة عادل إمام في خلق مسرح فكاهي "تلاميذي" جديد تجاوزوا به فكاهة مدبولي والمهندس. ساهم حجازي في نشر صحافة الأطفال حيث نشر مجموعة من الكتب في دار الفتي العربي عام 1973 كذلك نشر مجلدين من رسوم الكاريكاتير تحت عنوان "تنابلة الصبيان" التي ظهرت إلي النور منذ عام 1966 بمجلة "سمير" والتي حملت قدرا غير عادي من التنبؤ بما سيحدث في مصر .. فلقد تسلل حجازي فيها من منطلق أن الكبار كعادتهم ينظرون لما يطالعه أطفالهم علي أنه ( شغل عيال ) ليرسم أجرأ قصص يمكن تصورها، حيث قدم ثلاثة أطفال كسالي شديدي البدانة والخبث هم "تنابلة الصبيان"، هؤلاء الأطفال القادمون من بلاد السلطان يلعبون بالاقتصاد المصري لعبا من خلال أشكال عديدة للنصب والاحتيال ساخرة، ليصبحوا من أقطاب الصناعة في مصر وتهلل لهم وزارة الصناعة والإعلام يلهث وراءهم، في النهاية يفر التنابلة بما سرقوه إلي الخارج!.. (هذه النهاية اضطرت دار الهلال لتغييرها في الألبوم الذي أصدرته للقصة في عهد السادات). ينتمي حجازي إلي المدرسة المصرية الحديثة للكاريكاتير كواحد من الرواد العظام بعد أن تحول من منفذ لأفكار رئيس التحرير إلي فنان صاحب قضية له رأي مستقل في جميع القضايا المطروحة علي ساحة الوطن، من هنا بدأ يستكمل أدواته الفنية فأخذت خطوطه طريقها للتبلور وتحددت ملامح أسلوبه الخاص المتفرد، كذلك عمل علي صياغة فكرته الكاريكاتيرية من خلال التعبير عن مشاكل الفقراء المهمشين والمتعطلين، والإشارة إلي من أفقروهم وهمشوهم وسلبوا فرص عملهم من المستغلين والمترفين والمتسلطين والفاسدين المفسدين واللصوص، ثم قام بنقد النظام الحاكم ومعاداة أمريكا وإسرائيل وقام أيضا بطرح المشاكل الجنسية ورسم المتسكعين من طلبة المدارس والعجائز وهم يعاكسون البنات، ثم أخيرا تعرض إلي جلسات التدخين والمخدرات وخاصة مخدر الحشيش، ويعلق فيها غالبا علي آخر الموضوعات السياسية الرائجة ويضفي بعض العبث علي الأمور الجادة. بهذا الأسلوب الفكاهي شغل حجازي قراء الكاريكاتير وبه أبدع قممه التاريخية في الكاريكاتير مثل هجاء البيروقراطية الرجعية التي تولت بناء الاشتراكية، كشف غياب الحريات وبالذات رسومه عام 1962 بعد الانفصال ومناقشة الميثاق، ثم نقد الذات حتي الإيلام بعد نكسة 1967 وبعدها نقد سياسة الانفتاح في عصر السادات ثم الصلح مع إسرائيل. وفي محاولة هي الأولي لتوثيق أعمال حجازي الكاريكاتيرية استطاع الكاتب الصحفي محمد بغدادي أن يجمع عدداً كبيرا من أعمال حجازي امتدت منذ عام 1955 حتي عام 1995 وطلب من حجازي أن يلقي نظرة علي الكتاب وبعدها يسجل معه تفاصيل رحلته في الحياة مع الكاريكاتير.. رفض حجازي بشدة وأرسل لبغدادي هذه العبارة علي قصاصة صغيرة يقول فيها: "أنا بصراحة مش شايف نفسي فنان مهم، الحكاية كلها إني جيت من طنطا إلي القاهرة أشوف شغلانة آكل منها عيش وسجاير، وطلعت الشغلانة في الصحافة إني كنت وأنا في ثانوي باعرف ارسم شوية.. بس كده". شارك حجازي في رسم الكاريكاتير في بعض الصحف والمجلات مثل الأهلي، الخليج 1988، كل الناس 1989، كما عمل في مجلة ماجد وأبوظبي منذ عام 1979 إضافة لمشاركته في كل معارض الكاريكاتير التي نظمت داخل مصر وخارجها. من أهم السمات الفنية لكاريكاتير حجازي ميله إلي البساطة ومحاولة تأكيد المصرية والتركيز علي المضمون أكثر من الاهتمام بالشكل، ولم يسع حجازي إلي تغيير أسلوبه الفني منذ ظهوره، بل ولم يسع إلي تغيير الأنماط الثابتة للأشخاص والفئات التي يستعملها في كل رسومه، كما أنه لم يقدم شخصيات ورموزا ثابتة، وإنما اقتصر استخدامه لها علي الرموز والشخصيات الثابتة العالمية مثل العم سام، كذلك اهتمامه بالخلط بين كوميديا الموقف وكوميديا اللفظ، كان متميزا في استخدام العادات الشعبية والأغاني والتشخيص في الإقناع وذلك للأسباب التالية: توجه حجازي للطبقات الشعبية، استخدام الأغاني يعتبر وسيلة مؤكدة للحصول علي شعبية جارفة، كان الإكثار من التشخيص كتعويض عن عدم ابتكار الرسام لشخصيات ورموز ثابتة وبالتالي استعان الرسام بالأنماط الثابتة: فالإسرائيلي له ملامح ثابتة مثل الأنف المعقوف... وغيره. شهادات: في صوت حزين يقول عنه فنان الكاريكاتير السياسي طوغان رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير: "فقدان حجازي هو خسارة كبيرة جدا، رغم أنه انزوي في أواخر أيامه وترك الميدان، لكن رسومه باقية نابضة في ذهن وقلب الناس لزمن طويل لأنها صادقة خرجت من روحه وقلبه، لأنه كان فنانا صادقا وأمينا ومخلصا وعفيفا، فكل الفضائل تمثلت في حجازي، ورسومه السياسية لا يمكن نكرانها.. كذلك رسومه الاجتماعية باهرة.. كنا بجمعية الكاريكاتير سنقيم له معرضا بمدينة طنطا منذ حوالي ثلاثة أشهر لكن القدر لم يمهلنا". عن تأثير رسومه الكاريكاتيرية في الحياة السياسية يقول طوغان:" إنها كانت متفردة وإيماناً بقضية وفكر واضح، فلم تكن مجرد خطوط لرسم كاريكاتيري بصحيفة، أيضا أهم ما يميز حجازي أنه كان شجاعا". سألته عن دعم جمعية الكاريكاتير له، فرد قائلا: "للأسف الإمكانيات الضعيفة لجمعية الكاريكاتير لم تمنحها القدرة علي مساندة حجازي بمرضه والوقوف بجانب فنان بقامة حجازي، لكننا نبحث الآن مع محافظ الغربية إقامة معرض يليق بفن حجازي بطنطا، كما تم الاتفاق علي تأبين له بنقابة الصحفيين وندوة خاصة عن فنه بجمعية الكاريكاتير". أما فنان الكاريكاتير جمعة الذي زامله بمؤسسة روزاليوسف فيقول :" بالطبع لا يوجد أحد بمجلة "صباح الخير" أو "روزاليوسف" لا يحمل له حبا شديدا، فكان له حضور إنساني رائع ومتميز، فلقد كان التجسيد الحي لمفهوم "فنان" خلقا ومعاملة، فلقد احتضننا جميعا رغم أن فارق السن لم يكن كبيرا لكنه كان الأسبق خبرة لأنه بدأ الرسم الكاريكاتيري من سن الثامنة عشرة، فأذكر أنني حين بدأت العمل بروزاليوسف كان يشجعني دوما.. فأقرب توصيف لحجازي هو ما قاله عنه رخا " حجازي هو سيد درويش الكاريكاتير المصري ببساطته الشديدة وقدرته علي الوصول للناس" وبالفعل هذا حجازي فخطوطه كانت بسيطة جدا - علي الأقل في البداية سريعة جدا ومعبرة جدا أيضا تعليقاته كان يلتقطها من أفواه الناس، لذلك فأسلوبه هو السهل الممتنع لأنه قادر علي توظيف كلمات بسيطة ومتداولة بشكل متفرد في تعليقاته التي تميزت بالسخرية الراقية، فحجازي كان نجم الكاريكاتير في صباح الخير و«روزاليوسف»، حتي الكاريكاتير السياسي لديه كان جادا يطرح فيها أفكاره وآراءه، فلم يغير من أفكاره التي يهتم فيها بالفقراء في مصر رغم عدم انتمائه لحزب أو غيره، أعتقد أننا جميعا تربينا عليه وهذه هي مدرسة روزاليوسف التي تعلمنا منها الاهتمام والدفاع عن حق المصري البسيط.