«على الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء، شرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها ألا ينكسر قلبه»، كانت هذه إحدى مقولات الروائى إبراهيم أصلان، الذى تحل علينا ذكرى وفاته فى 7 يناير 2012، بعد صراع قصير مع المرض عن عمر يناهز 77 عامًا. واستطاع إبراهيم أصلان أن ينحت إسمه فى تاريخ الأدب العربي، رغم قلة أعماله الأدبية الا أنه استطاع أن يتميز بخط سخى من القصص والروايات التى عكس من خلالها صورة الإنسان المصرى وإرتباطه القوى بالمكان هذا الإرتباط الذى يعتبر الخط البارز فى مجمل أعمال اصلان بداية من مجموعته القصصية الأولى «بحيره المساء» مرورًا بعمله وروايته الأشهر «مالك الحزين»، وحتى كتابه «حكايات فضل الله عثمان» وروايته «عصافير النيل». ولد إبراهيم أصلان بقرية شبشير الحصة التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية ونشأ وتربى فى القاهرة وتحديدا فى حى إمبابة والكيت كات، وقد ظل لهذين المكانين الحضور الأكبر والطاغى فى كل أعمال الكاتب، ولم يحقق أصلان تعليما منتظما منذ الصغر، فقد ألتحق بالكتاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتى أستقر فى مدرسة لتعليم فنون السجاد لكنه تركها إلى الدراسة بمدرسة صناعية. التحق إبراهيم أصلان فى بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كبوسطجى ثم فى أحد المكاتب المخصصة للبريد وهى التجربة التى ألهمته مجموعته القصصيه «ورديه ليل». وإرتبط أصلان بعلاقة قوية بالأديب الراحل يحيى حقى ولازمه حتى فترات حياته الأخيرة، ونشر حقى الكثير من أعمال أصلان فى مجلة «المجلة» التى كان يرأس تحريرها فى ذلك الوقت. قصة مكان وعلى الرغم من انتمائه لجيل الستينات من القرن الماضي، هذا الجيل الذى شهد العديد الانتاجات الأدبية المميزة والذى عاصر فترة صعبة من تاريخ مصر من قصاوة الحرب والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية العاصفة، إلا أن أصلان كان يهتم فى رواياته بقصة الإنسان المهمش البسيط الذى تعصف به هذه التغيرات، وكان العنصر الأبرز فى روايات أصلان هو ارتباط الإنسان بالمكان، فالمكان هو الشاهد الذى لن يتغير ربما تتغير الوجوه والشخصيات ولكن يبقى المكان هو النقطة الفاصلة فى شخصيات أصلان. وتبقى روايته «مالك الحزين» والتى نفذت سينمائيا فيما بعد فى الفيلم المصرى الشهير «الكيت كات»، هى أكثر أعماله التى اعتنت بالمكان، حتى يكاد المكان أن يكون هو البطل الخفى للعمل، فعلاقة الشيخ حسنى بمنطقة الكيت كات، واعتياد خطوته، وهو كفيف داخل منطقة إمبابة وكورنيش النيل، والمقهى الذى كان يتعرف فيه على الأكفّاء الجدد، وذلك بعد أن جند عبدالله (القهوجي)، ليعمل لديه مرشدا يدله على الأكفّاء، ليخلص القارئ فى النهاية إلى أن المكان بقسماته الحقيقة هو بداخل هذا الشيخ، وليس المكان المادي. وأوضح إبراهيم أصلان فى إحدى مقابلاته الصحفية ارتباطه بالأماكن حيث قال:»مسألة المكان تشغلنى جداً، لأننى عند كتابتى لا أهتم بالكتابة عن المكان من الخارج، وإنما لدى إحساس (يكاد يكون عضوياً) بالمكان كباطن، لا أكتب إلا عن حدود جغرافية واضحة جداً بالنسبة لي.. ومن هنا ربما يكون إحساسى بالمكان مهم جداً وإن لم أكتبه، وما دامت هناك ذاكرة مع المكان، وروابط خصوصية، فهذا يعنى أنه يحمل شيئاً حميماً». ويعتبر المكان هو البطل القوى فى معظم أعمال أصلان حيث نراه فى «بحيرة المساء»، و»يوسف والرداء»، و»وردية ليل»، ورواياته «مالك الحزين»، و»عصافير النيل»، و»حجرتان وصالة»، و»صديق قديم»، وبعض الكتابات الأخرى، مثل «خلوة الغلبان»، و»حكايات من فضل الله عثمان»، و»شيء من هذا القبيل». ورغم التكريمات والجوائز المستحقة التى نالها إبراهيم أصلان فى حياته، فإن تكريمه بعد وفاته من خلال مشروع «عاش هنا»، كان هو الأقرب إلى مشروعه الإبداعى المبنى على إيمانه العميق بفكرة المكان، حيث وضعت لافتة باسم الكاتب الراحل، على المنزل رقم 22 بشارع فضل الله عثمان، بالكيت كات، إمبابة، ضمن المشروع الذى يقوم عليه الجهاز القومى للتنسيق الحضارى ليصبح إبراهيم أصلان على جزء من ذاكرة المكان وأهله على الدوام. أصلان وأكبر الأزمات الثقافية فى مصر على مدار مشواره الإبداعى حصل ابراهيم أصلان على عدد كبير من الجوائز والتكريمات منها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2003 – 2004، وجائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية «مالك الحزين» عام 1989، وجائزة كفافيس الدولية عام 2005، وجائزة ساويرس فى الرواية عن «حكايات من فضل الله عثمان» عام 2006. وعلى الرغم من أن هذه الجوائز والتكريمات الثقافية والإبداعية الا أن أصلان كان السبب وراء أكبر الأزمات الثقافية التى شهدتها مصر عام 2000، وذلك حين نشرت رواية وليمة لأعشاب البحر لكاتبها حيدر حيدر وهو روائى سوري، ضمن سلسلة «آفاق عربية» التى تصدر عن وزارة الثقافة المصرية وكان يرأس تحريرها إبراهيم أصلان، وتزعمت صحيفة «الشعب» التى كانت تصدر عن «حزب العمل» من خلال مقالات الكاتب محمد عباس حملة على الرواية حيث اعتبرها الكاتب تمثل تحدياً سافراً للدين والأخلاق، بل وأنها تدعو إلى الكفر والإلحاد. مما أثار جدلا عارما فى الأوساط الثقافية، وحشد طلاب الأزهر العديد من المظاهرات يعد أن استفزتهم المقالات التى تصدت للرواية وترفضها ظنا منهم أنها ضد الدين بالفعل. ولم تهدأ الأوضاع وتم التحقيق مع إبراهيم أصلان وتضامن معه الكثير من الكتاب والأدباء والمفكرين، غير أن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر قد أدان الرواية والقائمين على نشرها فى مصر وأعتبروها خروجا عن الآداب العامة وضد المقدسات الدينية، الأمر الذى ادى الى استقالة أصلان من منصبه من وزارة الثقافة. من جهة أخرى تصدى الأدباء والكتاب لهذا النهج الذى اتبعه حزب العمل لإثارة الرأى العام وكان أبرزهم مقال كتبه وائل الإبراشى فى مجلة «روزاليوسف» فى يناير 2000، وقال فيه : «بدا واضحاً الآن ان حزب العمل يلعب بكرتين ناريتين كرة التكفير السياسى والتخوين الوطنى وكرة التكفير الديني، ويسعى قادة الحزب إلى الحصول على مكاسب حزبية والدخول فى مساومات وصفقات سياسية من خلال التهديد بإثارة الفوضى والاضطراب وإشعال الفتن باستخدام الكرتين الناريتين. ولكن يبدو أن المارد خرج من القمقم ولم يعد بالإمكان السيطرة عليه بعد المظاهرة الهمجية التى قادها الحزب وصحيفته لتكفير وزير الثقافة فاروق حسنى والمبدع السورى حيدر واربعة مثقفين مصريين من بينهم المبدع إبراهيم أصلان».