ولأن الدكتور عزازي علي عزازي محافظ الشرقية أكثر من أخ.. وأكثر من صديق.. ورفيق درب.. لذلك فإن الاحتفاظ بصداقته كان لابد أن يكون أمراً بديهياً.. بعد أن تولي هذا المنصب الرفيع. ولكن عودتني التجارب السابقة مع أصدقاء كثيرين.. أن استمرار صداقتهم بعد أن يتولوا مثل هذه المسئوليات والمناصب.. يتحولون إلي شخصيات أخري.. بل يتنكرون لكل من عرفوه قبل توليهم المنصب.. نتيجة للأمراض المزمنة التي تصيبهم.. وأقلها «ورم في الذات».. و«تضخم في الأنا».. مروراً بأمراض المناطق «الحارة» في الجزء الأعلي من السلطة وهي «البارنويا».. أي والعياذ بالله «جنون العظمة».. وقد حدث أن أصيب عدد كبير من زملائنا في الصحافة بهذا الداء اللعين وهذه الأمراض المزمنة بعد أن تولوا مناصب رؤساء مجالس إدارات بعض الصحف.. أو رؤساء تحرير بعض المجلات والجرائد.. قومية كانت أو حزبية أو مستقلة علي السواء.. ومنهم من تولي مسئولية برامج وقنوات فضائية.. ومعظمهم أو جميعهم أصيبوا بهذا الداء العضال.. بدرجات متفاوته.. لذلك، فإنني تعودت بعد أن يتولي أصدقائي مثل هذه المناصب أجري معهم مكالمة تليفونية واحدة.. وبعدها أقطع صلتي بهم تماما.. حتي لا أصدم فيهم.. ولا أحملهم في ذات الوقت العبء النفسي للتنكر. ولكن يبدو أن الدكتور عزازي قرر أن يكسر هذه القاعدة لمن تولوا مناصب رفيعة المستوي من أصدقائنا.. فقد رأيت أمامي ولأول مرة محافظاً مصرياً بدرجة مواطن مصري بسيط.. فصديقي عزازي لم يتغير.. ولم يصب بأمراض «المناطق الحارة العليا من السلطة».. وهذا ما أكد لي أن الأشياء الحقيقية الصادقة ستظل دائما هكذا بغير تكلف ولا أقنعة.. ويبدو أن هذه المسألة لها علاقة بمدي أصالة الأشخاص ومدي صدقهم مع النفس أولاً.. وإن كان هذا الشخص مناضلاً حقيقيا أم كذابا حقيقيا.. فعزازي الذي ينتمي لمحافظة الشرقية وتحديداً من قرية «أكياد» شرقية التابعة لمركز فاقوس.. رجل فلاح مصري أصيل.. وشيخ عرب.. ولأنه رجل ناصري دائما فهو منحاز للفقراء وللعدالة الاجتماعية.. والمظلومين والمهمشين.. تعرف علي النضال وتبني ثقافة الفقراء والبسطاء لأنه مثقف مصري واع بما يحتاج إليه الإنسان المصري البسيط.. فقد سعي منذ أن أدركه الوعي إلي تغيير الواقع المتردي إلي واقع آدمي أفضل.. واقع أكثر احتراما للإنسان. وهذا ما يؤكد أنه كان صادقاً فيما كان يحمله من أحلام ورؤي لتغيير الواقع.. لذلك استأذنه أن أحكي لكم هذه الحكاية لتستردوا ثقتكم في أصدقائكم «الحقيقيين». فمنذ أيام قليلة.. تركت مكتبي بالدور الثالث في مبني «روزاليوسف» وأغلقت غرفتي وصعدت للقسم الفني بالدور الرابع لأنتهي من تصميم وتنفيذ الصفحة الأولي لجريدة «روزاليوسف» اليومية.. فإذا بي أتلقي مكالمة تليفونية من استعلامات الدار.. تقول: «محافظ الشرقية في الدور الثالث ومكتبك مغلق وهو يسأل عنك.. فقد جاء لزيارتك».. واعتقدت أنها مزحة.. فأنا أعلم أن اليوم كان هناك اجتماع للمحافظين برئيس الوزراء والمجلس العسكري.. وهذا معناه أن د.عزازي هنا في القاهرة اليوم.. ولكن أن يأتي إلي «روزاليوسف».. فأعتقدت أنها مزحة سخيفة من أحد الزملاء.. فأتصلت بعزازي علي تليفونه المحمول فرد علي الفور، فسألته: «أنت فين؟!» فقال لي: «أنا أمام مكتبك في مبني «روزاليوسف».. انت اللي فين؟!». فنزلت مسرعا وقد أدركت أن عزازي مازال عزازي.. كانت بالتأكيد مفاجأة.. فبعد أن شربنا القهوة ذهبنا إلي «شيراتون الجزيرة» لحضور لقاء موسع بين رئيس وزراء إثيوبيا «زيناوي» ولجنة الدبلوماسية الشعبية.. ومجموعة من الوزراء.. وبعد المؤتمر الصحفي.. كانت هناك مأدبة غداء علي شرف «زيناوي».. وكان هناك عدد من الوزراء والشخصيات العامة ورجال الأعمال.. ومرشحي الرئاسة.. وفوجئت بالدكتور عزازي يقول لي بطريقته المعهودة عندما نكون سويا: «علي فكرة أنا مفطرتش وعايزين نتغدي بسرعة قبل أن نذهب لتأدية واجب العزاء في وفاة المرحوم خالد عبدالناصر».. فتعجبت معتقداً أنه لم ير مأدبة الغداء الفاخرة التي كنا نقف أمامها.. وقلت له: «انظر خلفك ستجد ما لذ وطاب من أفخر الطعام».. فالتفت خلفه بامتعاض وقال لي: «لا.. أنا نفسي آكل كشري عند أبوطارق».. في البداية اعتقدت أنه يمزح.. وأنها مجرد حنين للماضي وأيام الصعلكة.. وهذه أمنية من «محافظ» يحاول أن يؤكد لي تواضعه.. وعدم تنكره لأيام زمان عندما كان رئيسا لتحرير جريدة «الكرامة».. وكان لدينا اشتراك يومي لدي «الكشري».. فقلت له مازحاً: «معقول يا سيادة المحافظ تسيب الأكل الفاخر الخمس نجوم بصحبة رؤساء الوزارات والوزراء.. وتروح تآكل كشري».. فقال لي جاداً: «طبعا.. أنا فعلا نفسي آكل كشري.. وأنا مش بهزر.. ولازم أروح آكل كشري حالاً»!! فسألته سؤلاً محدداً: «العاملين بمطعم الكشري عرفوا إنك بقيت محافظ».. فقال لي: «لا أعتقد.. لكن وافرض أنهم عرفوا».. قلت له «لأ تفرق كتير لو عرفوا إنك محافظ محدش ح يسيبك.. كل الناس ح تتلم عليك اللي عايز يتصور مع سيادة المحافظ واللي ح يقدم لك طلب واللي ح يطلب شقة واللي عايز إعانة.. واللي عايز مصلحة».. فقال لي: «مش مهم يالا بينا علشان نلحق العزاء».. فذهبنا إلي محل الكشري.. ورحب به الجميع باعتباره عشرة قديمة.. ولكنهم لم يكن لديهم علم بأنه أصبح محافظاً.. فأكلنا وشربنا وحمدنا الله.. حتي جاء الصديق «حمدين صباحي».. وكان قد اتفق معنا أنه سيأتي إلينا في شارع معروف لنذهب سوياً إلي العزاء.. فقلت لحمدين: «معقوله.. أصدقائي واحد منهم بقي محافظ.. والثاني مرشح للرئاسة ورئيس حزب.. وتأكلونا كشري.. أمال لما تبقي رئيس جمهورية حتأكلوا الشعب ظلط!!».. وضحكنا.. وأكلنا.. ومضينا.. وفي اجتماع المحافظين الذي انعقد يوم الخميس الماضي.. حضر عزازي للقاهرة.. وكدت أن اتصل به، ولكنني قلت لنفسي أكيد مشغول وينتظر أي فرصة يجلس فيها مع أسرته بدون مشاكل.. ولكنني فوجئت بأنه يتصل بي.. ويقول أنا في انتظارك علي نفس المقهي أنا عندي ساعة واحدة وسأغادر القاهرة فوراً.. نزلت مسرعاً.. التقينا.. ولم نتمكن من مواصلة أي حوار بدأناه.. لأن التليفون لم يكف عن الرنين من كل قيادات المحافظة.. وبعد قليل قرر أن يغادرني ويعود لمحافظة الشرقية رغم أننا كنا في مساء يوم الجمعة يوم راحته الأسبوعية.. فقام ومضي.. وانتظرت أن يطلب سائقه وعربة المحافظين الشهيرة. «محافظة الشرقية رقم «1» فلم أجد شيئاً.. فسألته أين سيارتك يا سيادة المحافظ.. فقال لي: أنا لا أركبها منذ أن عرف كثير من الناس أنني أصبحت محافظاً لأنني أريد أن استمتع بكوني مواطناً مصرياً عادياً.. فعرضت عليه أن أوصله بسيارتي إلي حيث توجد سيارة المحافظة.. فقال لي: أريد أن أقطع المسافة سيراً علي الأقدام وسط الناس.. هنأته علي احتفاظه بهويته كمواطن مصري.. وتمنيت له السلامة والقناعة والرضا.