المستشار د. محمد الدمرداش باتت أصداء الإلحاد والنظريات الوجودية التي تصادم الأديان السماوية تتردد الآن كثيرا بين بعض المفتونين بهذه الترهات، وقد ولجت مؤخرا من باب الحريات الذي فتح علي مصراعيه بعد ثورات الريبع العربي. وأصبحت المنتديات الإلكترونية المعنية بالملاحدة المصريين أو العرب عامرة بالمريدين خاصة الشباب قليلي التجربة ضحلي الثقافة، بل ألفيت في الآونة الأخيرة من يحتفي بذكري وكتابات المدعو إسماعيل أحمد أدهم الملحد صاحب الرسالة الصادمة (لماذا أنا ملحد؟) الذي انتحر في صبيحة يوم 23 من يوليو 1940 ولم يكن له من العمر سوي 29 عاما، ولم يشيع جنازته يومها إلا خمسة من أصدقائه. و قد نهضت بعض دور النشر مؤخراً إلي إعادة طباعة بعض ما سطره في حياته وتجميعه في كتاب واحد. والإلحاد درجات تبدأ بالشك في ثوابت الأديان ثم يزيد حين يستوطن في قلب الملحد ويزدهر فيصير استخفافا بالأديان السماوية وأهلها، وصولا بعد ذلك لإنكار قدرة الله عز وجل في التدخل في حياة المخلوقات، حتي تستوي الشجرة الملعونة في قلب الملحد فيطمئن لتمام إنكار وجود الخالق سبحانه وتعالي، والإلحاد ليس أمرا مستحدثا، وليس كما يشيع بعض الملاحدة الجدد نتاجا طبيعيا للتطور التكنولوجي الهائل الذي وصلت إليه الإنسانية في شتي المعارف الكونية، مسوغين لعقولهم السقيمة أن ما تحقق للإنسان من رقي عقلي يسمح له بأن يتجاوز المرحلة البدائية وهي مرحلة الدين. والإلحاد قديم قدم الإنسان ذاته، تناولته فلسفات قديمة مثل فلسفة أبيقور اليوناني منذ أكثر من 2500 عام، وهو أول من صدح بعبارة (لا وجود للإله ولا إحساس بعد الوفاة)، وهي العبارة التي اتخذها الملاحدة حديثا شعاراً بعد اختصارها في عبارة (لا إله). ويلبس الملاحدة علي اختلاف مشاربهم أفكارهم ثوب العقل حتي تنطلي علي بسطاء العقول فيستسيغون فهمها والانسياق وراءها، مبهورين بعقلانية المنطق وسلاسة الأسلوب؛ فيقولون: "إن الإيمان بالله لم يأت نتيجةً بحثٍ علمي، أو تحليل منطقي، وإنما جاء عن طريق أن إنساناً ما وهو النبي قال للناس: إن هناك إلهاً وهذه هي صفاته، وهذه هي أحكامه وتشريعاته، فالمؤمن لم يتوصل إلي "الله" بمحض عقله، بل إن إيمانه جاء عن طريق تصديق النبي فيما قاله. إذن، فإن الإيمان ما هو إلا مجرد تصديق لشخص ما وليس أكثر من ذلك". وبهذا التبسيط الساذج يقرر الملاحدة حسم قضية الإيمان بالله بعدم قيام دليل علي وجوده، سوي شخص جاء وأخبر عنه، وأمر الناس بطاعته، فالإيمان لا يعدو في حقيقته عندهم أن يكون تصديق شخص ما، لا أقل ولا أكثر، وهذا الدليل عندهم غير كاف أو مقنع.. هكذا دون بحث فيما جاء به النبي أو تفنيد لرسالته، فيكفي عندهم أن يكون دليل وجود الله بشرا لينتفي هذا الوجود! فهل رأي أحدٌ سخرية من العقل والمنطق كهذه السخرية، إن الإيمان بالله عز وجل خالق الوجود ومسيره، أعظم وأجل من أن يقال فيه هذا، أو أن تساق في نفيه بعض الحيل العقلية والكلام المنمق، فوجوده أعظم من أن يقتصر في الاستدلال عليه علي خبر النبي الذي يرسله رغم أهميته وعظم دلالته، فعندي إن إرسال النبي أثر مترتب علي وجود الله عز وجل وليس دليلا عليه، لأن أدلة وجوده أوسع وأعمق، فهي تتسع لتشمل كل ذرات الكون من فرشه إلي عرشه، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وهو ينادي بالدلالة علي خالقه، وهي دلالة لا تقتصر علي إثبات الوجود فقط، بل تتسع لتدل علي صفات وقدرات هذا الخالق العظيم، من العلم والحكمة والإرادة والقدرة وغيرها. ورغم سعة هذه الدلالات وعظمتها، فقد وجد من شواذ البشر، من زعم أنه لا إله، وراحوا بعد ذلك ينسجون من حبائل إبليس تفسيرا للحياة علي أنها مادة صماء لا تعقل ولا تنطق، أوجدت نفسها بنفسها عن طريق التلقائية والمصادفة!! وهي ذاتها تُسير ذاتها عن طريق نظام الطبيعة وقوانينها، دون أن يتدخل أحد لا في إيجادها ولا في تسييرها. كل ذلك في منطق سقيم مبتور يعجز العقل عن تصوره أو التسليم به، إذ كيف لمادة صماء أن توجد نفسها بنفسها، فضلا علي أن تهب الحياة لغيرها؟! كيف ؟! والعقل قاضٍ بأن الموجود لا بد له من مُوجد، وأن المخلوق لا بد له من خَالق، كما نطق بذلك لسان الفطرة عند أعرابي بسيط، عندما سئل عن دليل وجود الله؟ فقال: البعرة تدل علي البعير، والأثر يدل علي المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل علي العليم الخبير؟! وعندما تغوص في أوهام الملاحدة وتعاين ترهاتهم التي لا تصمد أمام التفنيد تستيقن أنهم ما سلكوا طريق الإلحاد إلا فرارا من الطاعة والالتزام بأي تشريع سماوي يحد من نزعاتهم الخبيثة، ويحول دون وصولهم إلي نزواتهم الدنيئة. وأسوق هنا قصة ملحد مصري قديم يدعي عبد الملك جري بينه وبين الإمام جعفر الصادق حفيد الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم حديثا حين قابله عند الطواف، وأفصح له الملحد المصري عن مكنون نفسه، فسأله الإمام: ما اسمك؟ قال: أنا عبد الملك. فسأله: وما كنيتك؟ قال: أبو عبد الله. فقال الإمام له: فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ وقال له الإمام جعفر: فكر وعندما أفرغ من الطواف نتحدث. فلمّا فرغ الإمام أتاه عبد الملك المصري، فقال له الإمام؟ يا أخا مصر، أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال: نعم. قال فدخلت تحتها؟ قال: لا. قال: فما يدريك ما تحتها؟ قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شيء. فقال له الإمام: فالظن عجز، لما لا تستيقن؟ ثم قال: أفصعدت السماء؟ قال: لا. قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا. قال: عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهن وأنت جاحد بما فيهن وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟! فقال الملحد: ما كلمني بهذا أحد غيرك. فقال الإمام: فأنت من ذلك في شك فلعله هو ولعله ليس هو؟ فقال الزنديق: ولعل ذلك، فقال الإمام: أيها الرجل، ليس لمن لا يعلم حجة علي من يعلم ولا حجة للجاهل. ولا يتسع المقام لسرد كامل الرواية التي تفند أباطيل أهل الإلحاد لكن ما يهمنا منها هو أن منهجية الملحدين منذ قديم الزمان في مناظراتهم في الأسواق والطرقات هي نفسها التي يستخدمها ملحدو الإنترنت اليوم، فلم تتغير الآليات الهادفة إلي إثارة الشك والريب في وجود الخالق، ثم الوصول بهذا الشك إلي هدم كل الثوابت حتي يترك القلب خاويًا والعقل فارغا تصفر فيه أنفاس إبليس. ولا بد من أن نستفيد من القاعدة المنطقية التي أشار إليها الإمام الصادق وهي "لا حجة لمن لا يعلم علي من يعلم". فالجهل لا يصح بحال أن يكون مصدراً للعلم أو اليقين. وليس من حق الجاهل أن ينكر وجود الإله لأنه أساسا لا يعلم الإله، وكما نقول دوما في استنباط الدليل إن البينة علي من ادعي، فعلي الملحد أن ينهض لإثبات خلو الكون من الله عز وجل لا أن ينفي ما يجهل ثم يطلب من الآخر أن يثبت له عكسه، أو أن يعترف بجهله وعدم علمه واحتياجه لمعرفة الآخرين، ولا يقبل منصف القول بأننا حين تعجز حواسنا عن إدراك كنهه عز وجل، فهذا دليل علي عدم وجوده بل نعتبر ذلك من صميم أحديته وصمديته وإثبات أنه واجب الوجود وخالق الكون لأنه لو أدركته حواسنا كان ذلك ينقص منه وإذا انتقص فهو ليس إلهًا. وللحديث بقية مع ملاحدة العصر الجديد وربيع الحرية والثورات العربية. وكيل مجلس الدولة ورئيس المحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية