صدر حديثا عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت الترجمة العربية لكتاب «الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟» من تأليف البروفيسور الفرنسى ريمى ريفيل المتخصص فى الآداب والعلوم الإعلامية والعلاقة بين الوسائل الإعلامية والثقافة، ونقله إلى العربية المترجم المغربى سعيد بلمبخوت، وقام بمراجعته الأكاديمى المغربى الزواوى بغورة أستاذ الفلسفة فى جامعة الكويت. يرى بلمبخوت أن ريفيل يحاول فى كتابه إثارة التفكير فى العصر الرقمى فى سياق نمط مزدوج يتعلق بالتقنية والدراسات الثقافية والفكرة الأساسية لهذا الاختيار هى أن الرقمى يعتبر مجالا تتعايش من خلاله المنتجات الثقافية على اختلافها مع الأقطاب التكنولوجية. لقد سبق للباحثين فى مدرسة فرانكفورت أمثال تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وفالتر بنيامين وغيرهم أن تطرقوا للصناعة الثقافية وتصنيع الثقافة، مع الأخذ بعين الاعتبار الثقل المتزايد للإنتاج المسترسل للمؤلفات (الأفلام والكتب والموسيقى) وترجيح منطق السوق بحكم تطور التكنولوجيات الجديدة للإعلام والتواصل وتوسيع حركات التمويل، وتركز قطاع الثقافة. ومن الضرورى الأخذ بعين الاعتبار ما يسمى بالتقارب بين عالمين، عالم الصناعة الثقافية من جهة، وعالم التواصل من جهة ثانية. تتمثل الصناعة الثقافية فى كل من القطاع السمعى والبصرى والسينما والصحافة والنشر والموسيقى المسجلة، وألعاب الفيديو، وقد أصبحت يوما بعد يوم أكثر ارتباطاً بالصناعة المتعلقة بالتواصل التى تجمع الصناعات الإعلامية والشبكات والموصلات السلكية واللاسلكية والويب والوسائل الإلكترونية الشائعة. وطالما أن اقتصاد المعلومة على الشبكة يركز على النشاط الفردى والجماعى لمتصفحى الإنترنت، فهؤلاء لم يعودوا مستهلكين أو زبائن، بل أصبحوا بالطبع فى أعين المنتجين مساهمين حقيقيين ومروجين للمعلومات، ولم يعد اختيار الناشر أو المنتج هو ما يحدد رواج الأعمال فى الساحة الثقافية الرقمية، بل التوصيات التى يبثها المتصفحون بمعجب وغير معجب، وللحصول على أكبر عدد من المعجبين حول فنان أو عمل يحفز الاختيار والانتشار.وهكذا تشكل الدعاية من شخص إلى آخر، ورأى الأقران محركات للطلبات، ومن ثم مشتريات محتملة. وتعبر المدونات عن تصاعد الذاتية والمؤانسة الرقمية؛ لأنه يتم النظر إليها كوسيلة لنسج الروابط مع أفراد آخرين حول كتابات يقوم من خلالها أولئك بتحديد وبصفة مستمرة ومتقاطعة لشخصيتهم الاجتماعية.انتقلت بنا الثورة الرقمية من الورق إلى اللامادي، وظهرت ممارسات جديدة فى القراءة، حيث بدأت طرق القراءة تتعقد وتدعو إلى اكتساب مهارات واستراتيجيات تتطور بمرور الزمن، ويلاحظ أن القراءة أصبحت سريعة، لأن إيقاع الحياة العصرية يدفع دائماً إلى القراءة المتسرعة وتدبير متسرع أمام زخم من المعلومات الأكثر أهمية. ويتساءل المؤلف: كيف سيكون مستقبل الكتاب والقراءة؟.. السيناريو الأكثر مواجهة يتعلق بالتفكير فى أن القراءة على الشاشة سوف تستمر فى التطور مع استبدال تدريجى للقراءة المطبوعة؛ وهذه الأخيرة ستكون مكوناً من بين مكونات أخرى للثقافة على الشاشة والتى ربما ستهمش الثقافة المكتوبة، فالقراءة لا يمكنها أن تختزل فى الكتاب المطبوع وحده والذى لم يعد اليوم إلا إحدى طرق القراءة، فممارسات القراءة ستصبح متعددة ومبعثرة، وسوف تبتعد بشكل متزايد عن الطريقة الشرعية للمدرسة التقليدية. وفى مجال النشر لابد من الإشارة إلى الفرص الهائلة التى تتيحها التكنولوجيات الرقمية وبالأخص، مع وضع لائحة عبر الشبكة، واقتراح المعلومات التكميلية (حوار مع الكاتب، وملفات صحفية، وبيوغرافيا حديثة، ..) أو الطبع من بعد تحت الطلب. لكن المؤلف يشير إلى مسألة خطر فقدان ذكاء عملية القراءة، واستيعاب عمل الناشر بفهرسة بسيطة للكتب المعنية فى مكان ومجال إنشاء المشروع المهيأ بعناية. وتزدهر المبيعات بشكل متزايد من طرف عمالقة العالم فى مجال التجارة الإلكترونية مثل شركة أمازون التى تركز على كل سلسلة منتجة فى قطاع الكتاب باستعمال استراتيجية عدوانية قوية؛ وذلك بخصوص تنظيم السوق من خلال تحديد ثمن عرض الكتب الرقمية، وما يتعلق بحقوق المؤلف وشروط التعاقد مع الناشرين (مكافأة الكتاب). فيما يتعلق بمستقبل المكتبات، فالمكتبات الصغيرة والمتوسطة المستقلة قد تختفى مستقبلا، لماذا الاستمرار فى الذهاب إلى المكتبات الواقعية فى حين أن هناك مكتبات افتراضية تمنح أشكالا متعددة لا متناهية من المؤلفات مع إمكانية الشراء المباشر، فبقاء المكتبات مرهون بزيادة قدرة انتعاشها وولائها لمجموعة القراء، وأن تجعل من المكتبات فضاء حميماُ جذابا، لاسيما بالنسبة إلى فئة الشباب. كما أصبح التفاعل بين الصحفيين والقراء والمستمعين والمشاهدين ومتصفحى الإنترنت، من الأولويات، لدى الفاعلين؛ فيجرى إحصاء رسائل القراء بعناية من قبل الصحف والبرامج، حيث يكون المستمع محل اهتمام، وجمهور التلفاز أصبح أيضاً محل اهتمام، فيجرى التعامل معه عبر الرسائل القصيرة أو الإلكترونية. فالتكنولوجيا الرقمية أحدثت ارتباكاً فى المجال الثقافى الذى يواجه بروز ظاهرة كبيرة وهى نهاية الوسطاء، وابتداء من اللحظة التى يستطيع فيها كل شخص أخذ الكلمة حول أى موضوع، وإرسال تعليقات وطرح رأيه خلال حوار مباشر عبر الشبكة، ووضع معرفته رهن الإشارة لأكبر عدد، ففى تلك اللحظة قد يكون فى استطاعة كل العالم – بداهة- التجريب، والإبداع بفضل الآليات والوسائل الرقمية الجديدة. ويتساءل المؤلف: ما مدى التجديد الثقافى الظاهر على الويب فى مختلف ميادين الموسيقى والأدب والفن، وغيرها، ويجيب: يوجد ذلك فى الواقع، فى بعض القطاعات، لكن يبدو على الرغم من الفوارق الظاهرة، محدودا فى بعض أشكال التجريب الفريدة، علاوة على ذلك فمعظم المعلومات (الأخبار) التى تعرض على الويب والشبكات الاجتماعية تمثل فى الواقع شكلاً من إعادة معالجة المعلومات المنشورة عبر وسائل الإعلام الكلاسيكية، مع أن هناك مواقع تطرح إضافات وتحليلات غير مسبوقة، فالثورة الرقمية ترتبط بانتشار وسائل الإعلام وتنوع سبل الوصول إلى الثقافة، بخصوص حجم وتوسيع الممارسات والأصالة الذاتية للمضامين نفسها، فثقافة التقاسم تشجع على المصادقة على المحتويات، لكن لا تشجع بالضرورة سياسة الإبداع. فالتكنولوجيا الرقمية خصوصاً فى المجال الثقافى ليست سوى انعكاس للاستعمال الذى يقوم به المرء ولا يمكن أن تُحلل بمعزل عن الفاعلين الذين يمتلكونها.