بعد مائة عام من وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) ظهرت ما سُمى بمدرسة «البداء» فى العراق، والبداء هو الإيمان بأن الله قدر أمرا، ثم عاد ورجع فى تقديره. وأرجع الدارسون للفلسفة الإسلامية أسباب ظهور «مدرسة البداء» لاضطراب مفهوم النبوة فى أذهان بعض المسلمين من أبناء البلاد المفتوحة. فى كتاب جديد اسمه «إحياء العقيدة»، تكلم الفرنسى يوسف بن لوز عن «مدارس البداء»، وقال إن المغالاة فى حب النبى (صلى الله عليه وسلم) هى التى أدت ببعض المسلمين الأوائل إلى اعتبار سلوكه كله وحيا، واجتهاده كله تكليفا دينيا. قال إن الاعتقاد فى «البداء» سببه غياب التفرقة بين ما هو من عند الله، وما هو من عند النبى. لكن فلاسفة «البداء» قالوا إنه إذا كان كل ما يقوله النبى (صلى الله عليه وسلم) من عند الله، فالمعنى أن السنة إلهية، وإذا كانت السنة إلهية، ثم ظهر بعد فترة ان تراجع النبى (صلى الله عليه وسلم) عما قال، أو عاتبه الله فى بعض ما فعل، فالمعنى أن الله - سبحانه وتعالى - عاد عما كان قد قدره، وأجراه على لسان نبيه! فكرة جدلية، لكن ليست منطقية، لذلك أثار ظهور «البداء» سجالا بين مدارس الفلسفة الإسلامية فى العراق فى القرن الثانى الهجرى، انتهى بحتمية التفرقة بين سلوك النبى الدنيوى، وبين كلام الله الذى أوحى به سبحانه، إلى النبى كقرآن. فى عصور الإسلام الأولى، فطن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هذا دون فلسفة، تيقنوا ان اجتهاد النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمور الدنيا، من عنده، وأن ما أبلغه من قرآن، كان من عند الله. علم الصحابة أيضا، ان عتاب القرآن للنبى، تعلق باجتهاداته (صلى الله عليه وسلم) كبشر فى تصرفاته الدنيوية، وأن تحريمه (صلى الله عليه وسلم) العسل على نفسه، بعد عراك زوجاته، وإخفاء زواجه من زينب بنت جحش، وإعراضه عن ابن أم مكتوم الأعمى، كلها كانت مبادرات دنيوية للنبى لا وحى فيها. فهم الصحابة معانى الآيات الكريمة: «إن هو إلا وحى يوحى» و«ما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوه» فى حدود ما نزلت فيه. فالمقصود بالوحى فى الآية الأولى القرآن، ليس القصد ان كل ما يخرج من فم النبى (صلى الله عليه وسلم) قرآن. فى كتابه، قال يوسف بن لوز إن ما فهمه الصحابة تبدل على مر التاريخ، فخلط المسلمون بين الوحى، وبين أفعال النبى، ولم يفرقوا بين القرآن الذى هو كلام الله سبحانه، وبين كلام النبى. لذلك فالذين يقولون إن كل كلام الرسول وحى، لا يفهمون الإسلام، لأن كلامهم لو صحيح، معناه أن يتعدى دور النبى (صلى الله عليه وسلم) نقل الرسالة إلى التشريع، بينما النبى لا يشرع! إليك هذا المثال: نُسب للرسول (صلى الله عليه وسلم) قوله «خير القرون قرنى والذى يليه»، نتيجة هذا الحديث، ادخل مسلمو العصور الحديثة قداسة على الصحابة، والتابعين، وتابعى التابعين، بوصفهم منزهين معصومين بالسنة، مع أنه إن جيت للحق، لا قرن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت خيرا، ولا المائة عام التى تلت وفاته (صلى الله عليه وسلم) كانت سعيدة. ففى قرنه (صلى الله عليه وسلم) مات عمر بن الخطاب مقتولا، ومات عثمان بن عفان بأيدى بعض أبناء الصحابة مقتولا ايضا، وتسبب خروج السيدة عائشة، ضد على بن ابى طالب فى فتنة بين المسلمين. كانت المائة عام الأسوأ فى تاريخ الإسلام!