أخبرتني زوجة روائي معروف عن مدي شعور ابن أخيها الذي سافر ليبحث عن مستقبل واضح في لندن بالعزة حينما كان يتابع اهتمام نشرات الأخبار اللندنية الكبير بما يجري في مصر، وفخره حينما اعتادت برامج تليفزيون الدولة المتقدمة استرجاع تاريخ مصر الممتد في العمر بنحو سبعة آلاف عام، وأثناء معرض "أبو ظبي الدولي للكتاب" الذي انتهت فعالياته منذ أيام، كان العاملون في هيئات أبو ظبي الثقافية والصحفيون وغيرهم ممن لهم انتماءات عربية مختلفة يتحدثون عن الثورة المصرية بتفاصيل وكأنهم كانوا يبيتون لياليهم في ميدان التحرير. الثورة إذا، وضعت الناس أمام حقيقة دور مصر الإقليمي والدولي المؤثر الذي تراجع تراجعا ملحوظا في السنوات الكثيرة الماضية، بعدما كانت رائدة بشهادة الكثيرين وبشهادة أدبيات وكتابات كثيرة، ربما من أبرزها ما كتبه جمال حمدان في "شخصية مصر" وما كتبه صبحي وحيد في "في أصول المسألة المصرية"، بل وظهرت أصوات كثيرة تتنادي بكون الثورة فرصة يجب أن تغتنمها مصر لاستعادة دورها وريادتها، أصوات دخلت فيها حتي المواد الإعلانية، وليس أدل علي ذلك من إعلان ثبّت علي سطح إحدي العمارات برمسيس مكتوب بخط واضح "يالا كلنا نرجع العزة لمصرنا" علي خلفية علم مصر. الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات وعضو لجنة المنتدي الاقتصادي العالمي، تحدث عن تلك الفرصة بشكل صريح في ندوة عقدت منذ أيام بالمركز الثقافي الإعلامي بأبو ظبي تحت عنوان "التحولات في الساحة العربية"، وفيها أعرب عن أمنيته في أن يكون النموذج الديمقراطي الذي يقتدي به الوطن العربي قادم من مصر، وقال مؤكدا: مصر تمتلك الآن فرصة لأن تكون هي "برازيل" المنطقة العربية، ويمكنها أن تتحول لمركز ثقل تنموي وديمقراطي في المنطقة العربية التي أبعدت عنها لمدة 30 عاما". ويبدو أن تأكيد عبد الخالق عبد الله جاء بناء علي زيارة قام بها لميدان التحرير في الجمعة التي خطب فيها الشيخ القرضاوي، حيث قال: هناك عشت مع مليوني مصري يمثلون المجتمع كله، واستشعرت كم أننا افتقدنا النموذج الديمقراطي في المنطقة العربية ومصر تحمل مقومات ومؤهلات ومواهب تم قتلها علي مدار سنوات يمكنها أن تصبح بمثابة البرازيل أو كوريا في المنطقة وتنهض باقتصاد الدول العربية". ربما في هذا الإطار يكون من المهم أخذ رأي عدد من النقاد والمثقفين كان قد سبق لهم المشاركة في ندوة حملت عنوان « القوة الناعمة المصرية وتحولاتها.. الدور الثقافي المصري في واقع إقليمي متغير» في أغسطس من العام الماضي، أقامها مركز تاريخ الأهرام، وقتها أكد الكاتب السياسي نبيل عبد الفتاح علي وجود إعاقات اعترضت الدور المصري في الإقليم العربي.. بعضها تاريخي وبعضها تكون منذ «المرحلة الساداتية» وحتي الآن ومنها: استنفاد تجربة التوليف بين التقليدي والحداثوي في نقد الفكر الديني التقليدي المحافظ، وتصاعد عمليات التوظيف المكثف للدين في العمليات السياسية الرسمية، خاصة مع صعود حركة المد الديني في أعقاب هزيمة 1967، وتديين المجال العام واللجوء إلي آلية التكفير الديني، وميل المؤسسات الرسمية إلي.. إما دمج المثقفين أو استبعادهم، وتدهور أنظمة ومؤسسات التعليم. وحينها قال الناقد الدكتور محمد بدوي: بعد دخول عدد كبير من المصريين في الإسلام بدأ إنتاج الثقافة المصرية علي استحياء، وتأكدت مكانة مصر سياسيا بعد قيام الدولة الفاطمية، وأتاح دخول مصر المبكر في الحداثة فرصة لفرض أنماط من الثقافة امتدت إلي مختلف الدول العربية، إلي جانب قدرتها علي الامتصاص والدمج لرموز الفن والثقافة في العالم العربي، وكانت مصر هي التي قادت عملية البناء والهدم، وتجريب اللغة العربية وتطويعها لتعبر عن تسميات جديدة، وقد قام بذلك الكتاب المصريون بدءا من كتّاب ثورة 1919 ووصولا إلي إبراهيم أصلان وغيره من هذا الجيل. أما الفنان التشكيلي عادل السيوي فقد اعتبر حينها أن كل ما فعلته مصر إيجابيا هو توطين بعض مظاهر الحداثة التي استوعبتها مبكرا، وقامت ببعض عمليات الحذف والإضافة فأكسبناها روحا سهلت عملية انتقالها لباقي الوطن العربي، وربما لو كنا استجبنا للحداثة بشكل أفضل، ما كنا نقلنا هذا الشيء المربك للدول العربية. واعترض وقتها الروائي عز الدين شكري علي الحديث عن الدور والقوة الناعمة قائلا: نتحدث عن الدور، وكأنه نوع من تفوق مصر علي المنطقة العربية، فلماذا نريد أن يكون لنا دور؟ وهل لدينا رسالة ما نشعر بواجب مشاركة الآخرين فيها؟ ولماذا أصبحت النخبة الثقافية هي المهمومة وتتحدث عن الدور الثقافي المصري، في حين أن ذلك دور الدولة تقوم به لتحقيق مصالحها. الآن الأمور تغيرت بعد الثورة، فوجب أن نطرح التساؤل بشكل مختلف علي هؤلاء الذين شاركوا في الندوة، هل تملك مصر الآن فرصة استعادة ريادتها في المنطقة العربية والإقليمية؟، وما هي إجراءات تنفيذ ذلك؟، هنا نعود للدكتور محمد بدوي الذي أكد أن لمصر دور تلقائي، طبيعي، ذاتي، تاريخي لا يد لها فيه وهو ما يتمثل بالأساس في قوتها الناعمة وتميز طبقتها المتوسطة وقدرتها علي التفوق أدبيا وسينمائيا وغيرهما، ودور آخر سياسي كان قد بدأ يتراجع في الخمسين عاما الماضية وتزايد تراجعه في الثلاثين عاما الأخيرة أثناء حكم النظام السابق، ويمكن أن تستعيده مصر إذا أفرزت الثورة نظام حكم وطنيا حداثيا رشيدا سياسيا ديمقراطيا، يخدم أهداف الثورة ومصالح مصر، ولكي يبرهن علي فكرته قال: لو كانت الثورة المصرية قامت من فترة طويلة واستطاعت أن تنتج نظام الحكم هذا، كان تأثيرنا سيكون أكبر في الثورة الليبية وكانت مصر قدمت مساعدات مختلفة الأشكال لإنجاح الثورة، لكن هذا تحقق بشكل جزئي، لأننا مازلنا في طور تكوين نظام الحكم، لكن هذا لا يمنع بدوي من العودة إلي التأكيد علي أن نجاح الثورة المصرية في إنتاج نظام حكم ديمقراطي سيحولها بشكل تلقائي لقائد ورائد في المنطقة، مثلما يحدث من استنساخ الثورة المصرية في اليمن والبحرين وفي ليبيا في بداية ثورتها. الفنان عادل السيوي بعدما كان يري أن دور مصر الواضح في المنطقة العربية منذ 200 سنة كان هو تصدير "الحداثة" أو ما يفضل أن يسميه "التحديث"، عاد وبعد 25 يناير، يري أن دورها يمكن أن يبني علي أرضية مختلفة، يوضح فكرته ويقول: مصر سبقت غيرها من الدول العربية في رحلة التحديث أي المزج بين القديم والجديد، وليست الحداثة التي تقوم علي فكرة الفرد والمشاركة ومرجعية العلم، وهي بهذه التجربة الهجين أصبحت نموذجا بالنسبة لمن حولنا بل ولبلاد أبعد كاليابان والسويد"، ويتابع: العالم الآن ينتقل لتجربة المعاصرة المبنية علي أشياء مختلفة عن تلك التي تتبناها الحداثة التي كانت تؤمن بالمركزية الأوروبية أو الزعيم الملهم وغيرهما، ومصر يمكنها الآن أن تنتقل لهذه المعاصرة، لأنها عملت تجربة سياسية فيها إبداع ومعاصرة اعتمدت علي الوسائط التكنولوجية الجديدة في التفكير وأخذ المواقف وتحريك الناس واستخدام لغة مختلفة بعيدة عن التقليدية وغيرها وهو ما حدث بالفعل في ثورة 25 يناير، ولهذا اعتقد أن الثقافة المصرية يمكنها أن تصبح رائدة الآن لو استطاعت أن ترقي لهذا المستوي الملهم والمبتكر في ثورة 25 يناير، وأن تتفجر أجيال جديدة بدون زعامات أو لغة سياسية تقليدية تخرج عن الأطر السياسية التقليدية، مثل الأحزاب وغيرها، هنا لو استطاعت الجماعة الثقافية أن تتخلي عن أدائها القديم الموروث والمشاكل والأسئلة التي لم تأت بأي نتائج وترقي لتغيير جلها وتخرج من تقوقعها وانفتحت علي جميع الأفكار، ستصبح مصر مؤثرة جدا علي المنطقة المحيطة بل وعلي الدنيا كلها. اسأل السيوي عن الدور السياسي، فيجيب: الحقيقة أن ما يهمني أكثر من الدور السياسي هو أن تتوطن الديمقراطية في مصر، أي أن تصبح مصر رائدة ونموذجا في تداول السلطة وفي قبول الآخر والتعددية وغيرها، لأنه للأسف لا توجد ديمقراطية محيطة بنا يمكن الاقتداء بها، فديمقراطية إسرائيل مبنية علي فكرة الاغتصاب، وديمقراطية لبنان مبنية علي أرضية طائفية، هذا هو ما اتمني أن تنجح فيه مصر، وهذا أهم لدي من دور سياسي دفعنا ثمنه كثيرا أيام جمال عبد الناصر، الآن مصر لديها مصالح عليها أن تراعيها ودورها ألا تدور في فلك أحد، أو أن تدخل في عداوات لا طائل منها، علي مصر أن تبني تحالفاتها وتعيد توازناتها وأن تصبح قوة إقليمية تدافع عن مصالحها وسط قوي إقليمية أخري. من موقع مختلف يتحدث الروائي السوداني المقيم بمصر، حمور زيادة، ويقول: اعتقد أن الشعب السوداني فرح بالثورة المصرية مثله مثل بقية الشعوب العربية، كما أن الثورة ساعدت علي تغيير نظرة سلبية كانت راسخة تجاه الانسان المصري خلال السنوات الأخيرة، فلم يكن يظن أحد أن المواطن المصري العادي يمكن أن يثور في هذا الزمن ويقف أمام جبروت الدولة ويواجه الرصاص والبطش في الشوارع، وينظم نفسه ويخاطر برزق يومه واستقراره في سبيل تحقيق شعارات كالحرية ومحاربة الفساد والمساواة وحكم القانون وغيرها، هذه الشخصية المصرية التي ظهرت في الثورة أجزم أنها بهرت الشارع السوداني الذي مازال يقدر الشجاعة والإقدام. لكن حمور يخشي من "شيفونية" الثورة المصرية، يخشي أن تتعامل الثورة مع نفسها علي أنها قائد لثورات المنطقة فتأكل نفسها بالثناء والإعجاب وتنسي ان تطارد أهدافها، وفي الوقت نفسه يعتقد أن ثورة مصر يمكنها أن تعيد صياغة الواقع المصري إلي الأفضل بما ينعكس علي دورها الثقافي، ويتابع: هناك مشاريع ثقافية ممتازة ارتبطت بالنظام السابق لابد أن تهتم بها مصر فيما بعد الثورة وتعمل علي تطويرها، كمشروع مكتبة الأسرة، وعليها أيضا أن تنفتح علي الثقافة العربية والإفريقية المحيطة، بما يزيد من قوتها القديمة.