مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف
تحدثنا فى العدد السابق عن صفة «السائح» التى تميز بها ذا النون المصرى ونكمل حديثنا فى قيام ذا النون بالسياحة فى طلب المباح فلقد حدث يوسف بن الحسين عن الفتح بن شخرف، قال: سمعت ذا النون يقول: خرجت فى طلب المباح، فإذا أنا بصوت، فعدلت إليه، فإذا أنا برجل قد غاص فى بحر الوَلَه، وخرج على ساحل الكَمَه، يقول فى دعائه: «أنت تعلم أن الإصرار مع الاستغفار لؤم، وتركى الاستغفار مع معرفتى بسعة عفوك عجز، يا إلهى أنت خصصت خصائصك بخالص الإخلاص، وأنت الذى تضن بضنائنك عن شوائب الانتقاص، وأنت الذى سلَّمت قلوب العارفين عن اعتراض الوسواس، وأنت الذى آنست الآنسين من أوليائك؛ فأعطيتهم كفاية رعاية ولاية المتوكلين عليك، تكلؤهم فى مضاجعهم، وتطلع على سرائرهم، وسرى عندك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، وأنت بالإحسان معروف».. ثم سكت فلم أسمع له صوتاً. فى بيت الله الحرام: وحدث محمد بن يزيد قال: سمعت ذا النون يقول: خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام.. فبينما أنا بالطواف إذ بشخص متعلق بأستار الكعبة، وإذا هو يبكى ويقول فى بكائه: «كتمت بلائى عن غيرك، وبحت بسرى إليك، واشتغلت بك عمن سواك.. عجبت لمن عرفكَ كيف يسلو عنك، ولمن ذاق حبك كيف يصبر عنك؟!».. ثم أنشأ يقول: ذَوَّقتنى طيب الوصال فزدتنى شوقا إليك مُخامر الحَسَراتِ ثم أقبل على نفسه فقال: «أمهلك فما ارعويت، وستر عليك فما استحييت، وسلبك حلاوة المناجاة فما باليت». قال: فلم أتمالك أن أتيت الكعبة مسحتخفياً فلما أحس تجلل بخمار كان عليه ثم قال: «يا ذا النون، غُض بصرك من مواقع النظر؛ فإنى حرام».. فعلمت أنها امرأة. ثم أنشأت تقول: لم أذق طعم وصلك حَتَّى زال عَنى مَحَبَّتى للأنام ثم قالت: «أوجعتنى أما علمت أنه لا يبلغ إليه إلا بترك من دونه».. فى بعض سياحاته: وقال ذا النون: رأيت فى سياحتى شيخا، فقلت: كيف الطريق إلى الله قال: «دَع طريق الخلاف والاختلاف». قلت: أليس اختلاف العلماء رحمة؟ قال: « إلا فى تجريد التوحيد». قلت: ما تجريده؟ قال: «فقدان رؤية ما سواه لوجدانه». قلت: أو ليس من عرف الله طال هَمُّه؟ قال: «بل من عرفه زال همه». قلت: هل يكون العارف مسرورًا؟ قال: «وهل يكون محزوناً؟!». قلت: أليس من عرف الله صار مستوحشاً؟ قال: «معاذ الله، بل يكون مهاجراً متجدداً». قلت: وهل يأسف العارف على شىء غير الله تعالى؟ قال: «وهل يعرف الله فيأسف عليه». قلت: وهل يشتاق إلى ربه؟ قال: «وهل يغيب عنه طرفة عين حتى يشتاقه؟!». قلت: ما اسم الله الأعظم؟ قال: «أن تقول الله وأنت تَهَابه». قلت: كثيراً ما أقوله ولا تداخلنى هيبة. قال: «لأنك تقول الله من حيث أنت، لا من حيث هو». قلت: عِظنى. قال: «حَسبُكَ من الموعظة عِلمُكَ بأنه يراك». قلت: فما تأمرنى؟ قال: «لا طَّلاعه عليك فى كل أحوالك؛ لا تَنسَهُ». وعن إسرافيل قال: سمعت ذا النون يقول: نظرت إلى رجل فى بيت المقدس، قد استغرقه الوَلَهُ، فقلت له: ما الذى أثار منك ما أرى؟ قال: «ذهب الزُّهَّاد والعُبَّاد بصَفو الإخلاص، وبقيتُ فى كَدَرِ الانتقاص، فهل من دليل مرشد أو حكيم موقظ؟». فى التيه: وقال: صحبت زنجيًا فى التيه، فكان إذا ذكر الله ابيض، فورد على أمر عظيم، فسألته، فأنشد: ذكرنا وما كنا نسينا فنذكر ولكن نسيم القرب يبدو فيظهر ثم قال أيضًا: أنت فى غفلة وقلبك ساهى نفد العمر والذنوب كما هى جمة أحصيت عليك جميعًا فى كتاب.. وأنت عن ذاك لاه لم تبادر بتوبة منك حتى صرت شيخًا فحبلك اليوم واه فاجتهد فى فكاك نفسك واحذر يوم تبدو السمات فوق الجباه قال ذا النون: «فما طرق سمعى مثل حكمة ذلك الزنجى، فعلمت أن لله تعالى عبادًا تعلو قلوبهم بالأذكار كما تعلو الأطيار فى الأوكار، فلو فتشت منهم القلوب لما وجدت فيها غير حب المحبوب». فى جبل نيسان: وقال: «اجتمعت فى جبل نيسان بامرأة متعبدة كالشَّن البالى كأنها تخبر عن أهل المقابر، فسألتها: أين وطنك؟ قالت: ما لى وطن إلا النار، أو يعفو العزيز الغفار. قلت: هل من وصية؟ قالت: شمر عن ساق الجد، ودع ما يتعلق به البطالون من الرجاء الكاذب الذى لا تحقيق لهم فيه، ولا يدرون كيف العواقب، فوالله لا يرد غدًا المنازل إلا المضمرون». فى جبال بيت المقدس: وقال: بينما أنا أسير فى جبال بيت المقدس، إذ سمعت قائلا يقول: «ذهبت الآلام عن أبدان الخدام، ولهيت بالطاعة عن الشراب والطعام، وألفت أبدانهم طول القيام بين يدى الملك العلام». فتبعت الصوت فإذ بشاب قد علاه اصفرار، فلما رآنى توارى منى بالشجر. فقلت له: ليس الجفاء من أخلاقهم، فأوصنى. فخر ساجدًا وجعل يقول: «هذا مقام من لاذ بك، واستجار بمعرفتك، وألف محبتك، فيا إله القلوب وما تحويه من جلال عظمتك: احجبنى عن القاطعين لى عنك».. ثم غاب فلم أره. فى جبل لبنان: وقال: «رأيت فى جبل لبنان رجلا أغبر نحيفا يصلى، فسلمت فرد، فمازال راكعًا ساجدًا حتى صلى العصر، ثم استند إلى حجر ولم يكلمنى. فقلت: ادع لى. قال: آنسك الله بقربه. فقلت: زذنى. قال: من آنسه الله بقربه أعطاه أربعًا: عزا من غير عشيرة، وعلمًا من غير طلب. وغنى بغير مال، وأنسا بغير جماعة. ثم شهق فلم يفق إلا بعد ثلاث ساعات. فقال: انصرف عنى بسلام. قلت: أوصنى. قال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلا». على شاطئ غدير: وقال ابن باكويه: حدثنا بكر بن أحمد الجيلى، قال: سمعت يوسف بن الحسين الرازى يقول: «كنت مع ذا النون المصرى، على شاطئ غدير.. فنظرنا فإذا بضفدع خرج من الغدير فركبه عقرب، وجعل الضفدع يسبح حتى عبر، فقال ذا النون: إن لهذا العقرب لشأن فامض بنا نقفو على أثره. فإذ برجل نائم سكران، وإذ حية قد جاءت، فصعدت إلى صدره وهى تطلب أذنه، فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها، فانقلبت فانفسحت، ورجعت العقرب ونزلت إلى الغدير وجاءت الضفدع بها إلى الجانب الثانى، فحرك ذا النون الرجل النائم ففتح عينيه فقال: يا فتى، انظر مم نجاك الله؟.. هذه العقرب جاءت فقتلت هذه الحية التى أرادتك.. ثم أنشأ ذا النون يقول: يا غافلا والجليل يحفظه من كل سوء يدب فى الظلم
كيف تنام العيون عن ملك يأتيك منه فوائد النعم فرفع الشاب رأسه ونهض وقال: إلهى، هذا فعلك بمن عصاك، فكيف فعلك بمن يطيعك؟.. ثم ساح». حديث مع بعض متعبدى العرب: روى يوسف بن الحسين قال: قال ذا النون: «دخلت على بعض متعبدى العرب فقلت له: كيف أصبحت؟.. قال: أصبحت فى بحايح نعمه أجول، وبلسان فضله وإحسانه أقول: نعماؤه على باطنة وظاهرة، وغصون رياض مواهبه على مشرقة زاهرة». سبحانه ما أمهله بالأنام: قال: وقال ذا النون: «دخلت على متعبدة، فقلت لها: كيف أصبحت؟ فقالت: أصبحت من الدنيا على فناء ومبادرة فى أخذ الجهاز، متأهبة لهول يوم الجواز، له على نعم أعترف بتقصيرى عن شكرها، واتنصل عن ضعفى عن إحصائها وذكرها، فقد غفلت القلوب عنه وهو منشيها، وأدبرت النفوس عنه وهو يناديها، فسبحانه.. ما أمهله بالأنام.. مع تواتر الأيادى والإنعام». أطلع الله إذا خلوت يجبك إذا دعوت: وقال: «رأيت فى تيه بنى إسرائيل سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن شاخصة ببصرها نحو السماء، فقلت: السلام عليك يا أختاه. قالت: وعليك السلام يا ذا النون. قلت: من أين عرفتنى؟ قالت: إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفى عام، ثم أدارها حول العرش. فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فعرفت روحى روحك فى ذلك الجولان. قلت: أراك حكيمة، فعلمينى مما علمك الله. قالت: يا أبا الفيض، ضع على جوارحك ميزان القسط: حتى يذوب كل ما كان لغير الله. ويبقى القلب نقيا لا شىء فيه غيره، فحينئذ يقيمك على الباب. ويوليك ولاية جديدة، ويأمر الخزان لك بالطاعة. قلت: زيدينى. قالت: خذ من نفسك لنفسك، وأطع الله إذا خلوت. يجبك إذا دعوت، والسلام». من استغنى بالله أمن من العدم: وقال: «كنت فى جبل الشام فرأيت رجلا قاعداً مطرقاً فقلت: ما تصنع هنا؟ قال: انظر وأرعى. قلت: ما أرى عندك إلا الأحجار فما الذى تنظره وترعاه؟ فنظر إلى مغضبا، وقال: انظر خواطر قلبى. وأرعى أوامر ربى، فبحق من أطلعك على إلا رحت عنى. قلت: كلمنى بشىء أنتفع به وأذهب. قال: «من لزم الباب أثبت من الخدم، ومن أكثر ذكر الذنوب أعقبه كثرة الندم، ومن استغنى بالله أمن من العدم».. ثم تركنى ومضى». لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: وقال: «رأيت بسواحل الشام امرأة، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من عند قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع. قالت: وإلى أين؟ قالت: إلى قوم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله». فى اليمن: علامة الخوف من الله. وعن ذا النون قال: «وصف لى رجل باليمن قد برز على الخافقين، وسما على المجتهدين، وذكر لى بالحكمة، ووصف لى بالتواضع والرحمة، فخرجت حاجاً، فلما قضيت نسكى مضيت إليه لأسمع من كلامه، وأنتفع بمواعظه أنا وأناس كانوا معى يطلبون منه مثل ما أطلب، ومعنا شاب عليه سيما الصالحين، فخرج إلينا، فجلسنا إليه، فبدأ الشاب بالسلام عليه، وصافحه، فأبدى له الشيخ البشر والترحيب، فسلمنا عليه جميعا، ثم بدأ الشاب بالكلام فقال: إن الله بمنه وفضله قد جعلك طبيبا لسقام القلوب، ومعالجا لأوجاع الذنوب، ولى جرح قد تفل، وداء قد استكمل، فإن رأيت أن تتلطف لى ببعض مراهمك، وتعالجنى برفقك. فقال له الشيخ: ما بدأ لك؟ فقال له الشاب: يرحمك الله، ما علامة الخوف من الله تعالى؟ فقال: أن يؤمنه خوفه من كل خوف غير خوفه. ثم قال: يرحمك الله، متى يتيسر للعبد خوفه من الله؟ قال: إذا أنزل نفسه من الدنيا بمنزلة السقيم فهو يحتمى من أكل الطعام مخافة السقام، ويصبر على مضض كل دواء مخافة طول الضنا. قال: فما علامة المحب لله؟ قال: إن درجة الحب درجة رفيعة. قال: صفها لى؟ قال: إن المحبين لله شق لهم عن قلوبهم: فأبصروا بنور القلوب إلى عز جلال الله: فعبدوه بمبلغ استطاعتهم له، لا طمعا فى جنته، ولا خوفا من ناره. قال: فشهق الفتى وصاح صيحة كانت فيها نفسه». من تراث الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الراحل