حين زاد الله الأمر فصلا وتفريقا بين شخص النبي وبين ما يدعو إليه من دين وما يقوم بتبليغه للناس من رسالة، وأن حياته عليه الصلاة والسلام ليست مرتبطة ارتباطا عضويا بإقامة هذا الدين، وأن حياته عليه الصلاة والسلام كذلك ليست ضرورية لوجود الأمة الإسلامية، وليست ضرورية كذلك لبقاء هذا الدين واستمراره، أعلنها الحق سبحانه صريحة مدوية: (إِنَّكَ مَيتٌ وَإِنَّهُم مَّيتُونَ) (30 الزمر)، فيا لها من توجيهات وحقائق وتربية تطيح بكل صور وأشكال الخضوع والتبعية وربط مصائر الأمم بالأشخاص والقادة حتي ولو كان ذلك الشخص أو ذاك القائد هو شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن هو دونه؟؟. وقد يسأل سائل ويقول: وهل أثمرت التوجيهات الربانية العظيمة هذه والتربية القيمة تلك شيئا ملموسا في نفوس الذين تربوا علي هذه التوجيهات من أتباعه عليه الصلاة والسلام؟؟ أقول نعم، بل كانت لهذه التوجيهات وهذه الحقائق الربانية وهذا الفصل التام بين شخص النبي محمد وبين الرسالة التي يقوم بمهمة تبليغها للناس أهمية قصوي لا يدركها إلا الراسخون في العلم، تبرز هذه الأهمية في تكوين أمة حية حرة فعالة تشعر بكيانها وتقوم بمسئولياتها في شتي الظروف ولا تربط مصائرها وحاضرها ومستقبلها بشخص تحيي بحياته وتموت بموته، ولقد أينعت ثمار ذلك التوجيه الرباني في نفس الصحابي الحر المسئول أنس بن النضر حين فشت شائعة مقتل النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد، فماذا حدث؟؟ أخرج ابن جرير عن السدي قال: فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلي عبدالله بن أبي، فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان. يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلي قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم. قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا علي ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك ممَّا يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. فشد بسيفه فقاتل حتي قتل. فأنزل الله قوله تعالي: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَن ينقَلِبْ عَلَي عَقِبَيهِ فَلَن يضُرَّ اللَّهَ شَيئاً وَسَيجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (144 آل عمران). يا لها من تعاليم ربانية تعلم الأمة إن هي أرادت أن تتعلم كيف تقود مصيرها بنفسها فردا فردا حتي وإن مات قائدها أو قتل في ساحات الوغي. وكذلك قد تمثلت معالم هذه التربية الربانية العظيمة في الصديق أبي بكر، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، فَقَامَ عُمَرُ يقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيقْطَعَنَّ أَيدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ الله فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيا وَمَيتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لاَ يذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَينِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيهَا الحَالِفُ عَلَي رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَي عَلَيهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَي لاَ يمُوتُ، وَقَالَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ ينْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيهِ فَلَنْ يضُرَّ اللَّهَ شَيئًا وَسَيجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). (رواه البخاري: كتاب المناقب). ونعود لنجيب علي سؤال عنوان المقال (هل تموت الأمم بموت قادتها؟)، أقول: نعم تموت الأمم حين يموت قادتها، وتمرض الأمم حين يمرض قادتها، ذلك حين تخلو الأمم من فكر يجمع الشعوب والقادة في ظلاله، فإن وجد الفكر ومات القادة يبقي الفكر تستظل به الشعوب وتلتف حوله، فالأفكار لا تموت بموت القادة ولا بموت الشعوب، أما إذا خلت الشعوب من الفكر وأوكلت أمرها إلي قادتها يعبثون بمصائرها وحاضرها ومستقبلها فحتما تموت الشعوب حين يموت قادتها، وتمرض حين يمرض قادتها، إن الأمة التي تربط حياتها ومصيرها وحاضرها ومستقبلها بحياة القائد وبقائه لهي أمة لا تستحق الحياة، بل عار علي الحياة أن يكون علي قيدها أمة كهذه. باحث إسلامي يقيم في أسيوط