رحم الله الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة الذي طالما أمتعنا بأعماله الدرامية، لقد تذكرته بقوة خلال أيام انتفاضة الغضب التي زلزلت الحال في مصر، وكنت أتأمل التناقضات الخطيرة التي تملأ المشهد بين الحديث المتصاعد عن أقصي درجات التغيير، وبين استيعاب رسالة الغضب من أجل تلبية المطالب ورفع وتيرة الإصلاح، ولم أستطع أن أمنع عقلي من استدعاء ما كتبه أسامة في عمله الدرامي الرائع «أرابيسك».. لقد تحقق جزء كبير من السيناريو الذي اقترحه لإصلاح مصر علي يد حسن النعماني «أبوكيفة» وقد قام الفنان صلاح السعدني بدور ذلك الصنايعي الماهر الذي تمسك بأصالته وأصالة صنعته، ولم يتنازل أو يفرط في مبادئه رغم مروره بظروف قاسية وإغراءات كثيرة. عكاشة رأي أن مصر تحتاج إلي زلزال يهزها بقوة.. زلزال يجعلها تستفيق مما هي فيه، لتنهض، وأوضح ذلك من خلال شخصية النعماني الذي أيقن أن فيللا الدكتور برهان عالم الطاقة النووية الذي قرر الاستقرار في مصر بعد سنوات من العمل في أمريكا، وأراد أن ينفذ بعض الديكورات التي تشعره بمصريته وهويته، ركن فرعوني، وآخر روماني، وقاعة شرقية، النعماني لم تعجبه الخلطة، رأي أن يتجاوب في الظاهر مع من حوله، لكن في باطنه قرر هدم الفيللا كي يتم تشييدها من جديد، فطن أن هوية مصر انصهرت فيها كل الحضارات والثقافات بداية من الفرعوني واليوناني والروماني والمملوكي والعثماني حتي وصلنا إلي «المودرن»، ورأي مثل كثيرين غيره أن مصر الجديدة هي كل هذا، وهي بعض ما رأيناه منذ خرجت الجماهير غاضبة في 25 يناير لتطالب بفرض التغيير، المفاجئ.. فعلاً أن الشارع حصل علي أكثر مما توقع، لكن خطوات تصحيح المسار التي نلمسها، وما نشهده من أحداث، يفتح الباب أمام عشرات الأسئلة، ومنها هل أدت هذه الثورة الجماهيرية الكاسحة إلي كشف حقيقي عن الشخصية المصرية، وهل نجحت هذه الشخصية أن تقدم أحسن ما فيها أمام العالم، أم أن الأمر يحتاج للكثير من الوقت حتي نعرف الإجابة؟ هل كسرت الثورة حاجز الخوف فعلا، أم أنها فتحت الباب لمشاعر التشفي والانتقام وتصفية الحسابات الشخصية والجري وراء مصالح ذاتية ضيقة واقتناص أكبر مكاسب ممكنة؟ هل ما يحدث الآن من مظاهرات فئوية في كل القطاعات ناتج عن حالة من الظمأ للكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والكبت المعيشي الذي استمر لسنوات طويلة؟ وهل كانت اللحظة مجرد تعبير عن هذا الظمأ وذلك الكبت؟ أم أن حالة الانفجار الجماعي كانت أكبر من أي عقل وأبعد من أي خيال، بحيث لم يفكر أحد في مخاطرة أو وضع خطة مستقبلية لمكتسباته؟ هل كانت ثورة مستقبلية فعلا بأهداف محددة سلفا أم أنها «غضبة» ساعدت عليها ظروف تاريخية مرت بها مصر طوال العقود الأخيرة؟ ما أدركه جيدا أننا نعيش مفترق طرق، أتخوف أن ندخل بعده في دوامة لا نهائية، من الانفلات والشللية وارتفاع حسابات المصالح لدي فئات جديدة تتغير فيها وجوه الانتهازيين والمتنفعين، فهناك الآن من يحاولون التطهر من الماضي القريب لإنقاذ أنفسهم، ويستعدون لركوب الموجة الجديدة، «موجة الثورة» وهناك من ينصبون أنفسهم قضاة ومنفذي أحكام، أحد الأصدقاء قال لي هذه هي السياسة.. أنه لا تعرف صديقًا دائمًا أو عدوًا دائم المصلحة هي صاحبة القرار الأول والأخير، ولذلك يتغير الرجال مع تغير المصالح. لذلك أعترف لكم بأنني لا أحب السياسة، ولا أرهق نفسي بحساباتها واحتمالاتها، لا أجيد لعبة التوازنات وأساليب الطرح والجمع، وآليات الضغط واستغلال المواقف وكل ما أتمناه أن نبني البيت من جديد وأن نتخلص من ضغائننا وأحقادنا ومصالحنا الضيقة، وأن تكون مصر هي همنا الأول والأخير.