العقد الأخير من القرن العشرين أثبت خطأ الثنائية الديكارتية، فإذا كانت رؤية ديكارت صحيحة... فعلي أي أساس يكون علم "الكمبيوتر"؟ وعصر الكمبيوتر والانترنت وثورة المعلومات والاتصالات؟... وتبلور ذلك في مجموعة مؤلفات ظهرت تباعًا بدءًا من العام 1987، معظمها يدحض هذه "الثنائية". أول من تصدي لهذه "الثنائية" وحاول تجاوزها، الفيلسوف الألماني "مارتن هيدجر" في كتابة العمدة "الوجود والزمان" عام 1962، الذي أتبع فيه المنهج الفينومينولوجي ل "هوسرل" وأثبت صعوبة الفصل بين رؤيتنا العقلية وأفكارنا وممارساتنا وسلوكنا اليومي، حتي في أبسط تصرفاتنا، وأكد: "أن رؤية ديكارت (المبتسرة) لا تقودنا إلي الفهم الصحيح والعميق لحقيقة وجودنا"(1). أما عالم البيولوجيا "هيمبرتو ماتيرانا" فقد ناقش النظرية الثنائية للمعرفة والطبيعة البيولوجية المعقدة وكيف أدت إلي تضليل مسار الفكر والاتصال وذلك في كتابة "أوتوبوسيس"... Autopoiesis عام 1980. وتوصل مع تلميذه "فاريللا" عن طريق "نظم الحياة الاصطناعية" إلي أن: التفاعل والتواصل بين البيئة - environment ونظم الحياة الاصطناعية - Life - A (المعلومات والتكنولوجيا) جعل من الصعب أن نفصل "العقل" عن "الجسد" أو التصورات الذهنية عن البيئة المادية التي نحياها. هذه الفكرة عالجها بالتفصيل كل من "فاريللا" و"تومبسون" و "روستسن" في كتاب "العقل المندمج" عام 1991، والفيلسوف "دانيل دينيت" في كتابه Consciousness Explained الصادر في نفس العام، وفيه يؤكد علي أن فينومينولوجيا الوعي تستطيع وحدها أن تمدنا بالفهم الكافي والواضح، بالنظر إلي المسار المعقد لنظام التفاعل والتواصل مع الآخرين في العصور الغابرة «2». هجوم الأحداث للثنائية الديكارتية، جاء من عالم الأعصاب والطبيب الإيطالي "أنطونيو داماسيو" وذلك في كتابة "خطأ ديكارت" - Descartes error عام 1994. وهو يعتمد في تفنيده للفكرة الديكارتية القائلة بأن العقل الإنساني يعمل بمعزل عن العمليات الجسمية، علي الكيمياء العصبية أساسا حيث يشير إلي أن العواطف تلعب دورًا مركزيا في اتخاذ القرارات الإنسانية. فالتصور القائل بأن العقل يوجد ككيان منفصل عن الجسم أدي إلي نتائج وخيمة علي الثقافة الغربية بشكل كبير منذ أن أعلن ديكارت مقولته الشهيرة: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، وقد برهن داماسيو رئيس قسم علم الجهاز العصبي. "النيورولوجي" بجامعة أيوا والباحث البارز في مجال وظائف العقل البشري، علي خطأ هذه المقولة من خلال أمثلة مدهشة ومقنعة. من هذه الدراسات لتاريخ العديد من الحالات المرضية والأشخاص الذين أصيبوا بأضرار في المخ في المناطق التي تؤثر علي وظيفة العواطف والانفعالات والشعور، دون أن يؤدي ذلك إلي أية إعاقة بدنية، توصل داماسيو إلي التأكيد علي حدوث خلل واختلال في وظائف اتخاذ القرارات الصحيحة في العقل، مما يثبت بما لا يدع مجالاً للشك ارتباط الانفعالات بالعملية العقلية للتفكير والمنطق، وهذا يثبت خطأ المفهوم الديكارتي تمامًا، كما يؤكد ذلك أن الجسم والعقل يعملان معًا طوال الوقت، ولا ينفصلان عن بعضهما في أية لحظة من اللحظات، ويكون الوعي الإنساني نتيجة مجموعة معقدة من الانفعالات والمشاعر والأحاسيس والعمليات العقلية والإدراكية التي تتصل ببعضها، وتتناول بشكل متبادل من أجل اتخاذ القرار «3». وللحديث بقية .. هوامش: 1 - يبين "ماي" - May في كتابه مصادر هيدجر الخفية (1989) أن هيدجر كان متأثرًا في ذلك بالفلسفة الشرقية، خاصة "بوذية" زِنْ، والتاوية Tao May (Reinhard): Heideggerصs Hidden Sources, Graham Parkes, Trans. London: Routledge, 1989. 2 - Lucky (R. W): Essay: The urge of an Ancient Dream Scientific American (No 265) (1991) P. 138. 3 - Damasio (A): Descartesص error, Von Books, New York, 1994.