لسنا بحاجة إلي بيان دور وأهمية المدرسة بمفهومها الواسع والشامل لمختلف المراحل التعليمية - وأيضًا مؤسسات التعليم العالي - في تشكيل وجدان الفرد، قيمه وأخلاقياته، واتجاهاته، إلي جانب دورها التقليدي في إكساب المتعلم المعارف والمعلومات والمهارات، وغيرها من العناصر التعليمية. ومعروف أنها تقوم بهذا الدور من خلال المناهج والمقررات الدراسية، وما يحدث من علاقات وتفاعلات بين مختلف المنظومة المدرسية من تلاميذ وطلاب ومعلمين، وإدارة مدرسية، داخل وخارج الفصول الدراسية. غير أن الجدير بالإشارة إليه هنا هو أن ما تقوم به المدرسة ومختلف المؤسسات التعليمية قد يحقق المنشود وما هو مستهدف تحقيقه من غرس للقيم والأخلاقيات النبيلة، والاتجاهات الإيجابية، وقد يصب ما تقوم به المدرسة في اتجاهات معاكسة لكل هذه الأمور، ويتناقض مع ما هو منشود ومستهدف، وإكساب قيم واتجاهات غير مرغوب فيها يمكن أن تؤدي إلي التفرقة، والتنافر والتباعد، وإثارة النعرة الطائفية. وبالنسبة للمدرسة المصرية فإن هناك عشرات الدراسات التي تؤكد إخفاقها وبدرجة كبيرة في القيام بدور إيجابي في هذا المجال، حيث تعاني قصورًا واضحًا في تشكيل القيم والأخلاقيات والاتجاهات الإيجابية المطلوب غرسها في نفوس المتعلمين. وذلك بسبب المناخ السائد داخل المدرسة، ووجود بعض المقررات - خاصة في مجال الدراسات الاجتماعية والدينية - التي تتناول أمورا تتنافي مع هذه القيم والأخلاقيات، إلي جانب بعض المعلمين من ذوي الاتجاهات المتطرفة الذين يحاولون تناول هذه المقررات والدراسات بشكل يعمق التنافر والتباعد، ويثير العصبيات الدينية والطائفية، ويحط من شأن المعتقدات والديانات الأخري، مما يكرس ثقافة الكراهية والتي يمكن أن تتصاعد إلي حدوث صراعات وفتن طائفية. ولتجنب كل هذه المخاطر، ولتكريس ثقافة المواطنة، وتعميق العلاقات والتفاعلات القائمة علي الحب والتسامح، وتقبل الآخر، والتقارب والتلاقي، ونبذ التنافر والتباعد بين أبناء الوطن علي اختلاف الديانات والمعتقدات، نري ضرورة أن تتضمن المناهج الدراسية وفي كل المراحل التعليمية مقررًا دراسيًا يتشكل محتواه مما هو مشترك بين الأديان من قيم وأخلاقيات وغايات نبيلة. يقوم بوضعه نخبة من علماء الدين المستنيرين من المسلمين والأقباط، إلي جانب أهل الاختصاص وخبراء التعليم، وعلي أن يتم وضعه بما يتناسب وكل مرحلة تعليمية وأن يكون مقررًا إجباريًا، ويحسب في مجموع التلاميذ والطلاب. نطالب بهذا من منطلق أن الديانات السماوية علي اختلافها بينها قواسم مشتركة أصيلة، وتستهدف في النهاية قيما عليا وغايات نبيلة، لا يدرك مراميها ومقاصدها العليا إلا المؤمن الحق بهذا الدين أو ذاك، مع التسليم بوجود اختلافات بين الأديان في الطقوس والعبادات، وعلينا أن نترك هذه الاختلافات، فكل دين وما أنزل من أجله. وليكن محل هذه الاختلافات دور العبادة الخاصة بكل دين، أما المشترك بين الأديان فهذا ما ينبغي أن تركز عليه المؤسسة التعليمية، بل ويمكن أن يكون محل اعتبار واهتمام في مختلف الوسائل التي تسهم في تشكيل الوجدان وبناء الإنسان، ومنها وسائل الإعلام، كما يمكن أن يكون أحد المحاور الأساسية في الخطاب الديني الإسلامي والمسيحي، خاصة أن هناك عشرات المأثورات والنصوص الدينية في الأديان السماوية التي تؤكد علي القيم والأخلاقيات النبيلة، وعلي الحب والتسامح، وتقبل الآخر، واحترام معتقداته، وصدق الله العظيم حيث يقول سبحانه «لكم دينكم ولي دين». وهنا تجدر الإشارة إلي أن المطالبة بوجود هذا المقرر الدراسي، لا يعني بحال من الأحوال إلغاء مقرر «التربية الدينية» داخل المدرسة، لأن وجود هذا المقرر (التربية الدينية) هام وضروري في غرس وتعليم الطقوس والعبادات للتلاميذ، ويكمل دور دور العبادة في هذا المجال. لكن يمكن أيضًا أنه من خلال تعليم هذه الطقوس والعبادات أن نستمد منها المقاصد العليا من فرضها علي أصحاب هذا الدين أو ذاك، ومن ثم يمكن - وبطريق غير مباشر - أن تصب في الأهداف المنشودة من وجود المقرر الخاص بالقواسم المشتركة بين الأديان. وهكذا يمكن للمدرسة أن تقوم بدور فعال في غرس هذه القيم والأخلاق الإنسانية المستمدة من أهمية وقيمة الإنسان، خليفة الله في أرضه، واستحق دون غيره التكريم الإلهي «ولقد كرمنا بني آدم» صدق الله العظيم. والمحصلة من راء كل هذا تكريس ثقافة الحب والتسامح والتلاقي والائتلاف، لا التباعد والتنافر، وهذا وغيره هو جوهر ثقافة المواطنة القادرة وحدها علي مواجهة كل أنواع الجمود والتعصب، والفتن الدينية والطائفية. وهذا ما نحن في أشد الحاجة إليه الآن وفي المستقبل، في ظل شيوع ثقافة الجمود والتخلف وإثارة الفتن الطائفية. وحمي الله مصر الكنانة من شرور كل هذه الآفات المدمرة.