حتي بعد انتقاله الي عالم الموتي، تحدثت الاسطورة عن أنه ظل عابدا لذاته هائما يبحث عنها قبل التحول بأعماق البحيرة، هكذا تداول مصطلحا نرجسيا. عند "أوفيدوس" الروماني أحد أعذب رواد صناع المعرفة الانسانية خلقت الحكاية، حكاية نرسيس أو نرجس ولن تنتهي بعد. ولد نرسيس عبر حادثة اغتصاب وحين ذهبت أمه الحورية الجميلة الي العراف الحكيم تريسياس تسأله هل سيمتد عمر ابني؟ آخبرها أنه سيمتد طالما فطن الي حقيقة أمره، وهذه كانت سقطته التراجيدية ولم تكن السقطة وحدها لكن اللعنة هي الاخري كانت جزءا من تراكيب البناء والحبكة والنهاية التراجيدية المؤلمة. نما وكبر الفتي نرسيس، نما بين كل انواع الطبيعة الساحرة، صار شابا ورمزا للعشق أعطته الدنيا الفتنة والجمال الساحر وثراء الطلعة، كان نصف إله يتحرك علي الارض كما في الميثولوجيا، لم يكن ينقصه سوي أن يري ظل الآخر علي الارض ويفطن الي حقيقة أمره، أحبته الطبيعة، البحيرات، الحوريات لكن نرسيس كان باقة من الصفات المفرطة في الغرام بالنفس وعبادة الذات كانت كارثته أنه لم ير شيئا من حوله في مشاهد الحياة الواسعة الزوايا غير ذاته، أحد الايام صارحته إحدي الحوريات بحبها، رفضها بكل قسوة وازدراها صادما لها في إهانة مميتة، حولت الاهانة الحورية التي انزوت ثم تلاشت ثم مسخت الي حجر، إنه التحول، مضي نرسيس ولم يشعر أنه ارتكب جريمة وأكمل حياته التي تدفع بميكانيكا تضخم الانا، وتمادي، سخر من حوريات أخريات عشقنه وتوددن له وهاموا فيه، مما دفع بعضهن للتوجه الي السماء لطلب القصاص بنفس ونوع الالم. سقط نرسيس في حب نفسه ولم يكن جديدا، فقد دأب علي مواصلة ذلك ولم يغير الامر شيئا سوي من النهاية، غرق بشدة في مرآة نفسه وصار يبتعد شيئا فشيئا عن أن يفطن الي حقيقة أمره "لست وحدك"، وعجز عن فهم أن هذا الاستغراق والتوحد الاناني هو الفناء القريب. لقد أفرغ نرسيس العالم من مضمونه وكان انانيا قحا وتمادي الي أبعد حد، أبعد أبعد حد. وكل يوم يمر عليه يفقد شيئا عظيما من تواصله مع عظمة الكون والخلق ويقضي علي خلية انسانية بداخله ويزيد من تلك الهوة في انفصاله عن العالم ولم يكن يدرك أنه يوم بيوم يدق مسمارا جديدا بنعش حياته التي عزلها وقدسها بتعال فج ولم يكن لديه الشجاعة بالاعتراف أو حتي الادراك أنه يعيش في عالم مصطنع كاذب وواهم بسياج من الانانية والصلف تنصب علي ما يريده فقط مما يراه، فالحقيقة التي رآها من طرف واحد ليست حقيقة، أنها تداع حر ينافي جوهر الحقيقة والحياة. استمرت الانانية تنمو في حقول نرسيس الانسانية وازدهرت كل أنواع الذاتية المريضة والنرجسية المعقدة وتكاثرت من حوله كل أنسجة وهواجس عالمه العنكبوتي التي تري الامور بخيوط مرآتها وزواياها الخاصة واسقاطتها الواهنة، ما تحبه وما تعشقه وما تريده وما تحتاجه ولا حاجة لآخر في حياتها سوي أنه سلم في صعود الأنا، ووجه يري العالم من خلال احتياجات وطموحات ومآرب أفقه الحسي الخاص لا عبر واقعه الشاسع والفسيح، لم يتمتع ولم يفطن الشاب الي حقيقة أمره وشغله هواه الشخصي بذاته مما أفقده أن يستشعر بحدسه، رياح مصيره. اعتاد نرسيس ان يذهب الي البحيرة كي يلمس حلمه بالنظر في صفحة مرآة الماء لتقبيل نفسه التي سقط في حبها وكان في كل مرة يحاول تقبيلها يمنعه الماء وعندما يبتعد، تبتعد صورته، لم يكن ليفطن في حقيقة أمره أنه خلط الواقع بالحلم، وخلط الواقع بالحلم لهو جريمة عقلية وانسانية عظيمة حتي في إطارها الدرامي ولم يكن بمستطاعه الابتعاد عن انانيته التي تزداد توحشا لان عواطفه الشبقة وشهواته المتأججة المندفعة تجاه نفسه، دفعت بعالمه الضيق حول الذات الذي كان يملاؤه بمفرده ببطولة مطلقة الي النهاية الحتمية لينال مصير الحورية الضحية وهو الذبول ثم التلاشي ثم التحول الي زهرة النرجس، لم يكن يعي أن سلوكياته تنتهي باحتضار منتحر في التفاني للوصول الي ذاته، هكذا تمحورت المرآة حول الذات، فسقطت الذات والمرآة معا. فعندما يكون المحرك هو الانا يلغي الآخر اوتوماتيكيا وتسود نزعات اللون والجنس والعرق وغيرها وتلك نهاية العالم فكم من ضحايا لحروب بائدة أشعلتها "أنوات" طائشة وباطشة قدست الأنا. نرسيس درس فلسفي جامح لضحايا الأنا والأنانية، الأنا جحيم الاخر، وخطيئة كبري تجعل من العالم ساحة جريمة صامتة إن لم تحرك الأنا المرآة الي الآخر.