خيم الحزن علي أجواء ندوة "إبداع إدريس علي وشخصية مصر النوبية"، التي افتتحها د.عماد أبوغازي الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة، متحدثا عن صداقته بالراحل، التي بدأت منذ توليه المجلس، لكن الدموع لم تدعه يكمل كلمته، فتناول الحديث الروائي خيري شلبي، الذي قدم وصفا إنسانيا لعلي، محتفظا بشهادته الأدبية لنهاية الندوة. ثم جاءت كلمة أحمد حسن علي نيابة عن أسرة علي مؤكدًا أواصر العلاقات المصرية مابين المسلم والمسيحي وكذلك قوة العلاقات السودانية المصرية وأننا شعب واحد، وعن امتنان الأسرة لإقامة ندوة عن إبداع علي. ثم بدأت الجلسة الأولي والتي أدارها فؤاد قنديل، مقدما محور الجلسة المتحدث عن ابداع ادريس علي الجسور والعميق الذي ينقل احساس مصر، من خلال النقاد المتحدثين، حيث بدأت د.أماني فؤاد بتقديم قراءتها لرواية "انفجار جمجمة"، التي اعتمدت فيها علي رسم الشخصيات، محاولة عرض التماس ما بين الشخصية الرئيسية وما بين السيرة الذاتية، حيث يحدث حصار بين الروائي وبين الهمج والأشباح، وتصف نهاية الرواية كالنسيج المتعدد المستويات المتنوع بين المصير والرفض للنهاية، واحتفاء "مبروكة" بنصف "بلال عثمان" الأسفل وإصباغها عليه صفة الأولياء، كما أن النهاية تصف أوضاع المنطقة العربية، لتخلص بأن علي كان متحيزا للقومية العربية، والكتابة عنده حياة تستحق أن تعاش، تعري الإنسان وغرائزه وشهواته واستهلاكيته، من خلال تناول الكثير من الأفكار بعقلانية ونظرة تأملية. بدأ الناقد سامي سليمان تناوله النقدي لرواية "مشاهد من قلب الجحيم"، التي يراها تنتمي إلي رواية السيرة، تعني برسم الشخصية عبر مراحل مختلفة من خلال اختيار الخطوط الأساسية والعلامات الفارقة، لكن تم كتابتها بطريقة مثيرة للإعجاب، فرغم غلبة طابع كتابة السيرة بضمير المتكلم، نجد في هذه الرواية الراوي يستخدم ضمير المخاطب، كمحاولة من السارد لاصطناع مسافة فاصلة بينه وبين الوقائع، وإيهام القارئ بها، كذلك منع تحقق الإسراف العاطفي، ويحول بيننا وبين التماهي مع الشخصية الأساسية التي يقدمها النص. استهل الناقد يسري عبدالله دراسته متسائلا: "هل ثمة "لعب فوق جبال النوبة" ؟ واللعب فوقها وعر وقاس، منتهيا بقتل الشخصية المركزية "غادة"، التي ترمز للصراع بين ثقافتين أولي بهما الامتزاج، ف "غادة" في جوهرها متجانسة الثقافتين، والتي أرسلها أبوها من القاهرة للنوبة عقابا لتمردها وخرقها للعادات، لتجد بيئة مناقضة تماما لها عدا صبي في التاسعة تصفه أمه إنه إبليس، وتتشكل بينهما علاقة سيكولوجية، حيث يتلاقيان في الرغبة في الإفلات من أسر المواضعات والتقاليد الموروثة، تنهض البنية السردية بين سؤال الحرية ومساءلة الواقع، لكنهما يفشلان في التمرد هذا وتقتل الجدة "غادة" والتي بقتلها نكون قد قتلنا الروح الوثابة والحيوية، فقتلها ليس حادثة نصية انما قتلها في ظني هو قنص لأفق التغيير ومغالبة الواقع السلفي، لذا جاء المدخل معبئا ومشحونا بمدلولات سياسية. أعلن يوسف الشاروني في مستهل كلمته أنه كان قد سبق نشرها من قبل وهي عن رواية "النوبي"، التي وصفها أنها محاولة المصارحة الشديدة العقلانية، التي تقدم تطورا ملحوظا لما يسمي الرواية النوبية، متمثلة في خصائص المكان الطبيعية، وأسلوب السرد، وثقافة المكان وطقوسه الشعبية والحياتية، بالإضافة لاستخدام شخصية "الغريب"، المتداولة بكثرة في الرواية النوبية، نتيجة للتهجير. جاءت المداخلات متميزة وذات وقع خاص، كمداخلة سعيد الكفراوي الواصفة لمحاولة علي الانتحار والتي أدرجها في إحدي رواياته، واصفا اللحظة بين الموت والحياة وحلمه بفتاة ترتدي الأبيض تحكي له الحكايات عن حبه القديم، أما محمد عمر رسام الكاريكاتير وصف وفاة علي بأنها كالأشجار التي تموت واقفة، فكان دوما يغني خارج السرب جاعلا نبرة التمرد علي ألسنة أبطاله، يعيش عالمه علي الورق، فإدريس علي شجرة تثمر وهي تموت. وفي جلسة الشهادات قال الروائي خيري شلبي: لو انتظم إدريس علي من بداية حياته في التعليم وتثقف ثقافة رفيعة، كان ممكن يكون عالميا وأقوي من ماركيز مثلا وكثيرين ممن نالوا شهرة لم يستحقوها. عيبه وهو ليس مسئولا عنه لأنه تربي تربية عشوائية وقاسية، وفيها ما لا يمكن أن نتخيله من العناء والشقاء، إلا أنه علم نفسه بنفسه لذا فهو يستحق التقدير، ومع ذلك موهبته استطاعت أن يصنع بريقها الخاص، وأن تجنب إدريس نفسه دون أن يستطيع قمعها أو ترشيدها أحيانا، مما جعلها تجنح جنوحات غير مضمونة العواقب مما جعله يتورط سياسيا واجتماعيا، ولكن حتي هذه الجنوحات هي في الحقيقة فن، ويجب علي المتلقي أن يكون واسع الصدر، ففن إدريس مثل أي فن جديد له مقاييس خاصة يجب أن نستنبطها من أعماله، إدريس قدم وجه مصر النوبي وتعرفنا من خلال أدبهم علي النوبة نحن الشماليين.