انتخابات النواب 2025.. إقبال ملحوظ على لجان بني سويف للمشاركة في التصويت    جامعة قنا تشارك في ملتقى قادة الوعي لطلاب الجامعات    انطلاق قوافل التنمية الشاملة من المنيا لخدمة المزارعين والمربين    ارتفاع معدل التضخم في المدن المصرية إلى 12.5% خلال أكتوبر    موانئ أبوظبي: ندعم تطوير قطاع النقل المصري    استشهاد فلسطينيين في قصف طائرة مسيرة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي شرق خان يونس    1105 مستوطنين يقتحمون باحات الأقصى واعتقال 20 فلسطينيا من مدن الضفة الغربية    أحدهما طفل.. شهيدان في قصف الاحتلال شرق خان يونس بقطاع غزة    رضا عبد العال: بيزيرا "خد علقة موت" من لاعبي الأهلي.. ويجب استمرار عبدالرؤوف مع الزمالك    مدرب ليفربول: لا أحتاج لمواجهة مانشستر سيتي    مباريات مثيرة في كأس العالم للناشئين اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025    تعليم الفيوم: انتخابات مجلس النواب تسير بسهولة ويُسر.. صور    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل تاجر الذهب أحمد المسلماني في رشيد إلى 16 ديسمبر المقبل    24 نوفمبر.. محاكمة أصحاب فيديو الفعل الفاضح أعلى المحور    تطورات الحالة الصحية للفنان محمد صبحي بعد تعرضه لوعكة صحية    الصحة تنفذ تدريبا مكثفا لتعزيز خدمات برنامج «الشباك الواحد» لمرضى الإدمان والفيروسات    بعد حجة جديدة.. إلغاء جلسة لمحاكمة نتنياهو في قضايا الفساد    تعزيز الشراكة الاستراتيجية تتصدر المباحثات المصرية الروسية اليوم بالقاهرة    اليوم.. أحمد الشرع يلتقي ترامب في البيت الأبيض    أسعار الذهب اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 في محال الصاغة    بعد ارتفاع الأوقية.. قفزة في أسعار الذهب محلياً خلال تعاملات الاثنين    نصر الله: الذكاء الاصطناعي التوليدي يفتح عصرًا جديدًا من الابتكار للشركات الناشئة في المنطقة    إطلاق منصات رقمية لتطوير مديرية الشباب والرياضة في دمياط    الزمالك عن إيقاف القيد بسبب فرجاني ساسي: متوقع وننتظر الإخطار الرسمي    «الله أعلم باللي جواه».. شوبير يعلق على رفض زيزو مصافحة نائب رئيس الزمالك    الاثنين 10 نوفمبر 2025.. البنك المركزي يطرح سندات خزانة ب 20 مليار جنيه    انطلاق التصويت في أسوان وسط إقبال ملحوظ على لجان انتخابات مجلس النواب 2025    تنوع الإقبال بين لجان الهرم والعمرانية والطالبية.. والسيدات يتصدرن المشهد الانتخابي    حالة الطقس .. البلاد على موعد مع انخفاض حاد فى حرارة الجو بعد 48 ساعة    اندلاع حرائق مفاجئة وغامضة بعدة منازل بقرية في كفر الشيخ | صور    «الداخلية»: تحرير 1248 مخالفة «عدم ارتداء الخوذة» ورفع 31 سيارة متروكة بالشوارع خلال 24 ساعة    التعليم: تغيير موعد امتحانات شهر نوفمبر في 13 محافظة بسبب انتخابات مجلس النواب    غرق سفينة صيد أمام شاطئ بورسعيد.. وإنقاذ اثنين وجار البحث عن آخرين    مواقيت الصلوات الخمس اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 في محافظة بورسعيد    مسرح وكتابة سيناريو.. ورش تدريبية لأطفال المحافظات الحدودية بمشروع «أهل مصر»    عائلات زكي رستم وشكوكو وسيد زيان يكشفون أسرارا جديدة عن حياة الراحلين (تفاصيل)    لماذا استعان محمد رمضان بكرفان في عزاء والده؟ اعرف التفاصيل .. فيديو وصور    أحمد إسماعيل: مشاركتي في افتتاح المتحف الكبير يعكس جزءًا أصيلاً من هوية مصر    كيف مرر الشيوخ الأمريكى تشريعاً لتمويل الحكومة؟.. 8 ديمقراطيين صوتوا لإنهاء الإغلاق    مجلس الوزراء يستعرض جهود الدولة للحد من أضرار التدخين وحماية الصحة العامة    رئيس الوزراء يدلي بصوته في انتخابات مجلس النواب 2025 بالمدرسة اليابانية بالجيزة    «السادة الأفاضل» يتصدر الإيرادات السينمائية بأكثر من 3 ملايين جنيه    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    انطلاق أعمال التصويت في انتخابات مجلس النواب 2025 بالمهندسين    الرئيس الأمريكي يصدر عفوا عن عشرات المتهمين بالتدخل في انتخابات 2020    «الصحة»: التحول الرقمي محور النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان    أمريكا: اختبارات تكشف الجرثومة المسببة لتسمم حليب باي هارت    «أنا مش بخاف ومش هسكت على الغلط».. رسائل نارية من مصطفى يونس بعد انتهاء إيقافه    السوبرانو فاطمة سعيد: حفل افتتاح المتحف الكبير حدث تاريخي لن يتكرر.. وردود الفعل كانت إيجابية جدًا    «لاعب مهمل».. حازم إمام يشن هجومًا ناريًا على نجم الزمالك    الأهلى بطلا لكأس السوبر المصرى للمرة ال16.. فى كاريكاتير اليوم السابع    «الثروة الحيوانية»: انتشار الحمى القلاعية شائعة ولا داعٍ للقلق (فيديو)    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورات سلمية وأنظمة عنيفة

حتى لا ننسى، أو تتبدّل الروايات بفعل غسيل الأدمغة الذي تمارسه الأنظمة القمعية المهيمنة في بلادنا، كانت ثورات الربيع العربي، ومازالت، ثورات سلمية في جوهرها، فهي لم ترفع شعارات العنف أو الإقصاء، بل رفعت شعارات السلمية والديمقراطية وعدالة التوزيع. في المقابل، قوبلت تلك الثورات بنظم أمنيةٍ عنيفة إقصائية، بالغت، أحياناً كثيرة، في استخدام القمع والعنف المفرط بأنواعه المختلفة، ولو على حساب تدمير بلادها، وفتحها أمام التدخل الخارجي، كما حدث في سورية وليبيا واليمن.
كانت الثورة التونسية فاتحة الثورات العربية وقائدتها بشعاراتها السلمية، وبتدفق الجماهير إلى الشوارع، ومطالبتها بالحرية وإسقاط النظام، وبانحياز الجيش التونسي لها، ما منع البلاد من الانزلاق إلى العنف، وأسرع بهروب بن علي في فترة وجيزة، فتحت شهية الشعوب العربية على الثورات.
وكانت الثورة المصرية هي التالية بأسابيعها الثلاثة، والتي شهد العالم كله بسلميتها وحضاريتها وانفتاحها. وعلى الرغم من سلمية المظاهرات، قتلت قوات النظام الأمنية مئات المتظاهرين العزّل في الشوارع، واعتقلت مثلهم. ومع ذلك، لما تخلى حسني مبارك عن الحكم، سارع المتظاهرون إلى تنظيف الشوارع وإخلائها، بعد أن وثقوا في كلمات فضفاضة أدلى بها قادة الجيش الذين أعلنوا الانحياز للثورة.
ويوم سقوط مبارك، انطلقت ثورة اليمن، والتي قادها الطلاب، وشهدت مشاركة رائعة للمرأة اليمنية في مجتمعٍ محافظ، واستمر الشباب يتظاهرون سلمياً، ويتلقون الرصاص بصدورٍ عارية، والرصاص يحصدهم فرادى وبالعشرات، كما حدث في جمعة الكرامة (13 مارس/ آذار 2011)، ودفعت دماء الشباب المراقة مزيداً من قطاعات الشعب للانضمام للثورة، حتى اضطر علي عبدالله صالح للتوقيع على المبادرة الخليجية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
أما الثورة الليبية فقد ووجهت من اليوم الأول بقمع القذافي المفرط، وبكتائب مؤسساته الأمنية، وسرعان ما عرفت الثورة مستوياتٍ مقلقةً من القمع، في ظل غياب مؤسساتٍ مركزيةٍ جادّةٍ، كجيش قوي يمكن أن ينحاز للشعب، فقد أضعف القذافي الجيش لصالح خليطٍ من المؤسسات الأمنية التابعة له. وبمرور الوقت، تدخل الخارج لتسليح الثورة الليبية، لحماية المدن الليبية المحاصرة من قوات القذافي.
وفي مارس/ آذار 2011، انطلقت الثورة السورية، والتي رفعت بقوة شعارات السلمية، وحافظت عليها في وجه أكثر أنظمة المنطقة عسكرةً وقمعاً، شهوراً استمر المتظاهرون السوريون السلميون يتلقون الرصاص وقذائف المدفعية، تصيب المظاهرات والمدن الثائرة، حتى دفع عنف النظام المفرط وتعنته إلى انشقاق مزيدٍ من عناصر الجيش السوري، ورفع الثوار السوريون السلاح بشكل متزايد في أواخر عام 2011.
وعلى مدى السنوات الخمس التالية، دفعت الأنظمة القمعية بلادها دفعاً نحو العنف، بقتل
"العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات" المتظاهرين السلميين في الشوارع، واعتقال عشرات الآلاف وتعذيبهم، وإطلاق العناصر الدينية المتشدّدة من السجون، بل وفتح الباب لصعود الجماعات العنيفة من بلاطجة إلى ملثمين إلى دواعش، فالعنف هو لعبة تلك الأنظمة العسكرية المفضلة، فهي تجيده، بحكم خلفياتها العسكرية بعكس الثوار السلميين، كما أن انخراط البلاد في العنف وخطر الفوضى واللاجئين والمجاعات وصعود الجماعات الدينية المتشددة كان بمثابة ورقة المقايضة التي تستخدمها النظم القمعية في مواجهة الخارج، والضغط عليه، للتوقف عن دعم الثورات السلمية، والإقرار بحقيقة بقائها، ضماناً لعدم انزلاق البلاد (وفقا لخطط النظم القمعية نفسها) إلى العنف والفوضى.
في مصر، قتلت المؤسسات الأمنية عشرات المتظاهرين السلميين في الشوارع في مواجهات مستمرة خلال العام الأول للثورة، وصعدت قوى سلفية متشددة إلى السطح بشكل مفاجئ، رافعة شعارات الكفر بالديمقراطية والثورة، وشغلت الناس بصراعات دينية وأيديولوجية طاحنة، ليثبت بعد انقلاب 3 يوليو 2013 حقيقة تحالف بعض أهم تلك الجماعات وأكثرها نفوذاً مع المؤسسات الأمنية نفسها، ومع الثورات المضادة في العالم العربي. كما شهدت الساحة الإعلامية المصرية تسابقاً محموماً من رؤوس الأموال العربية، وخصوصاً الداعمة للديكتاتوريات والثورات المضادة لشراء الفضاء الإعلامي، والدخول للساحة المصرية، حاملة شعارات الحرية والعهد الجديد أولاً، لترسيخ أقدامها، ثم لتنقضّ على الثورة، وترفع شعارات التخويف من الثورة والقوى السياسية الجديدة تباعاً، في مرحلة من الخداع الإقليمي والإعلامي، لن تنمحي من الذاكرة المصرية بسهولة.
في اليمن، وعلى الرغم من منح علي عبد الله صالح الحصانة من المساءلة عما ارتكبه من جرائم في حق شعبه، وفقا للمبادرة الخليجية إلا أن هذا لم يكفه، واستمر مسلسل تعطيل الثورة. وفي النهاية، دخل صالح في تحالفٍ مع خصومه الحوثيين، لإسقاط الحكومة المنتخبة والداعمة للثورة في انقلاب عسكري آخر حوّل البلاد إلى ساحة حربٍ إقليمية، نظراً للدعم الذي يحظى به الحوثيون من إيران، ما دفع السعودية وعددا من دول الخليج إلى التدخل، وما زالت اليمن تعاني، حتى هذه اللحظة، من عذابات الحرب في ظل اقتصادٍ منهارٍ وفقر مستشرٍ، وأوضاع إنسانية متفاقمةٍ، وضعف الاهتمام الدولي. وفي ليبيا، لم تكتف دول الثورة المضادة بحقيقة ضعف الدولة المركزية الهائل، وتفتت الليبيين بين ولاءاتٍ دينيةٍ ومحليةٍ وإقليميةٍ وسياسيةٍ متعدّدة، وغياب مؤسسات دولةٍ راسخةٍ بل عملت على تأييد انقلاب عسكري آخر بقيادة خليفة حفتر، على غرار انقلاب عبد الفتاح السيسي العسكري. ونظراً لضعف المؤسسات الأمنية المركزية، لم يحقق حفتر أي إنجازٍ يُذكر، وانقسمت ليبيا إلى حكومتين، إحداهما في طرابلس والأخرى في طبرق، حتى يئس المجتمع الدولي من المشهد الليبي وانتشار داعش في سرت وغيرها، وتدخل لدعم حكومة الوفاق الوطني، على أمل إخراج البلاد من الانقسام. أما سورية، فقد تمترس النظام في قوات أمنٍ طائفيةٍ، وطلب دعم طائفي كذلك من مليشيات إقليمية وإيران، بالإضافة إلى روسيا، والتي تدخلت بآلة حربٍ مدمرةٍ، لدعم بقاء النظام في السلطة. وتحولت سورية إلى ساحة حربٍ داميةٍ، راح ضحيتها ربع مليون سوري، وتهجر بسببها نصف الشعب أو يزيد، وفقدت الدولة السورية مئات المليارات من ثروتها المادية والبشرية.
"تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية"
ولو حاولنا تلخيص أهم خصائص العنف الذي استخدمته الأنظمة ضد الثورات، لتحدثنا عن التالي:
أولا: تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية، وتعتمد على خليطٍ هائل من مؤسسات الأمن القمعية، والتي تعمل عادة خارج إطار القانون.
ثانياً: تمارس تلك الأنظمة العنف بشكل يومي ومعتاد ومنظم، وعلى مستويات مختلفة، فالمؤسسات الأمنية، ظلت عقوداً لم تتوقف عن قمع المعارضين وتعذيبهم وسجنهم من خلال محاكماتٍ صوريةٍ، أو عسكرية، ما ساهم من دون شك في إهدار فرص تطوير المعارضة وأحزابها.
ثالثاً: لا يتوقف العنف على قمع مؤسسات الأمنية والتعذيب، بل يمتد إلى الدساتير، والتي تبيح محاكمة العسكر المدنيين، وتحظر الأحزاب، وتعاقب القوانين ومؤسسات القضاء خصوم النظام بإعلانهم "إرهابيين"، وتحظرهم وتجرّمهم، بل تنشر مؤسسات الإعلام الرسمية العنف والكراهية ضد خصوم النظام، وتشارك المؤسسات الدينية الرئيسية في الدولة في التعتيم على العنف، وشرعنته داخلياً وخارجياً.
رابعاً: العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات، وجرّ الثورات إلى العنف هو غاية من غايات النظام، حتى يسهل تشويه عمليات التحول الديمقراطية وتخويف الخارج منها.
خامساً: تجد الأنظمة دعماً خارجياً إقليمياً ودولياً من الديكتاتوريات العربية وإسرائيل وروسيا واليمين الغربي، يمدها بالمال والسلاح والمليشيات والدعم السياسي، لقمع شعوبها والهروب من العقاب.
سادساً: تحت العنف المفرط قد تضيع بوصلة بعض أبناء الجماعات السياسية الجادّة ولو فترة. ولكن، نأمل أن يرسخ شركاء الربيع العربي وعيهم بطبيعة ثوراتهم المنادية بالحقوق والحريات والديمقراطية القائمة على التبادل السلمي للسلطة، وبناء مؤسساتٍ دولةٍ محترمةٍ، ترعى هذا التبادل وتدافع عنه، وأن يدرك الشباب طبيعة العنف استراتيجيةً راسخةً، ومفضلة الأنظمة الاستبدادية والثورات المضادة.
حتى لا ننسى، أو تتبدّل الروايات بفعل غسيل الأدمغة الذي تمارسه الأنظمة القمعية المهيمنة في بلادنا، كانت ثورات الربيع العربي، ومازالت، ثورات سلمية في جوهرها، فهي لم ترفع شعارات العنف أو الإقصاء، بل رفعت شعارات السلمية والديمقراطية وعدالة التوزيع. في المقابل، قوبلت تلك الثورات بنظم أمنيةٍ عنيفة إقصائية، بالغت، أحياناً كثيرة، في استخدام القمع والعنف المفرط بأنواعه المختلفة، ولو على حساب تدمير بلادها، وفتحها أمام التدخل الخارجي، كما حدث في سورية وليبيا واليمن.
كانت الثورة التونسية فاتحة الثورات العربية وقائدتها بشعاراتها السلمية، وبتدفق الجماهير إلى الشوارع، ومطالبتها بالحرية وإسقاط النظام، وبانحياز الجيش التونسي لها، ما منع البلاد من الانزلاق إلى العنف، وأسرع بهروب بن علي في فترة وجيزة، فتحت شهية الشعوب العربية على الثورات.
وكانت الثورة المصرية هي التالية بأسابيعها الثلاثة، والتي شهد العالم كله بسلميتها وحضاريتها وانفتاحها. وعلى الرغم من سلمية المظاهرات، قتلت قوات النظام الأمنية مئات المتظاهرين العزّل في الشوارع، واعتقلت مثلهم. ومع ذلك، لما تخلى حسني مبارك عن الحكم، سارع المتظاهرون إلى تنظيف الشوارع وإخلائها، بعد أن وثقوا في كلمات فضفاضة أدلى بها قادة الجيش الذين أعلنوا الانحياز للثورة.
ويوم سقوط مبارك، انطلقت ثورة اليمن، والتي قادها الطلاب، وشهدت مشاركة رائعة للمرأة اليمنية في مجتمعٍ محافظ، واستمر الشباب يتظاهرون سلمياً، ويتلقون الرصاص بصدورٍ عارية، والرصاص يحصدهم فرادى وبالعشرات، كما حدث في جمعة الكرامة (13 مارس/ آذار 2011)، ودفعت دماء الشباب المراقة مزيداً من قطاعات الشعب للانضمام للثورة، حتى اضطر علي عبدالله صالح للتوقيع على المبادرة الخليجية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
أما الثورة الليبية فقد ووجهت من اليوم الأول بقمع القذافي المفرط، وبكتائب مؤسساته الأمنية، وسرعان ما عرفت الثورة مستوياتٍ مقلقةً من القمع، في ظل غياب مؤسساتٍ مركزيةٍ جادّةٍ، كجيش قوي يمكن أن ينحاز للشعب، فقد أضعف القذافي الجيش لصالح خليطٍ من المؤسسات الأمنية التابعة له. وبمرور الوقت، تدخل الخارج لتسليح الثورة الليبية، لحماية المدن الليبية المحاصرة من قوات القذافي.
وفي مارس/ آذار 2011، انطلقت الثورة السورية، والتي رفعت بقوة شعارات السلمية، وحافظت عليها في وجه أكثر أنظمة المنطقة عسكرةً وقمعاً، شهوراً استمر المتظاهرون السوريون السلميون يتلقون الرصاص وقذائف المدفعية، تصيب المظاهرات والمدن الثائرة، حتى دفع عنف النظام المفرط وتعنته إلى انشقاق مزيدٍ من عناصر الجيش السوري، ورفع الثوار السوريون السلاح بشكل متزايد في أواخر عام 2011.
وعلى مدى السنوات الخمس التالية، دفعت الأنظمة القمعية بلادها دفعاً نحو العنف، بقتل
"العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات" المتظاهرين السلميين في الشوارع، واعتقال عشرات الآلاف وتعذيبهم، وإطلاق العناصر الدينية المتشدّدة من السجون، بل وفتح الباب لصعود الجماعات العنيفة من بلاطجة إلى ملثمين إلى دواعش، فالعنف هو لعبة تلك الأنظمة العسكرية المفضلة، فهي تجيده، بحكم خلفياتها العسكرية بعكس الثوار السلميين، كما أن انخراط البلاد في العنف وخطر الفوضى واللاجئين والمجاعات وصعود الجماعات الدينية المتشددة كان بمثابة ورقة المقايضة التي تستخدمها النظم القمعية في مواجهة الخارج، والضغط عليه، للتوقف عن دعم الثورات السلمية، والإقرار بحقيقة بقائها، ضماناً لعدم انزلاق البلاد (وفقا لخطط النظم القمعية نفسها) إلى العنف والفوضى.
في مصر، قتلت المؤسسات الأمنية عشرات المتظاهرين السلميين في الشوارع في مواجهات مستمرة خلال العام الأول للثورة، وصعدت قوى سلفية متشددة إلى السطح بشكل مفاجئ، رافعة شعارات الكفر بالديمقراطية والثورة، وشغلت الناس بصراعات دينية وأيديولوجية طاحنة، ليثبت بعد انقلاب 3 يوليو 2013 حقيقة تحالف بعض أهم تلك الجماعات وأكثرها نفوذاً مع المؤسسات الأمنية نفسها، ومع الثورات المضادة في العالم العربي. كما شهدت الساحة الإعلامية المصرية تسابقاً محموماً من رؤوس الأموال العربية، وخصوصاً الداعمة للديكتاتوريات والثورات المضادة لشراء الفضاء الإعلامي، والدخول للساحة المصرية، حاملة شعارات الحرية والعهد الجديد أولاً، لترسيخ أقدامها، ثم لتنقضّ على الثورة، وترفع شعارات التخويف من الثورة والقوى السياسية الجديدة تباعاً، في مرحلة من الخداع الإقليمي والإعلامي، لن تنمحي من الذاكرة المصرية بسهولة.
في اليمن، وعلى الرغم من منح علي عبد الله صالح الحصانة من المساءلة عما ارتكبه من جرائم في حق شعبه، وفقا للمبادرة الخليجية إلا أن هذا لم يكفه، واستمر مسلسل تعطيل الثورة. وفي النهاية، دخل صالح في تحالفٍ مع خصومه الحوثيين، لإسقاط الحكومة المنتخبة والداعمة للثورة في انقلاب عسكري آخر حوّل البلاد إلى ساحة حربٍ إقليمية، نظراً للدعم الذي يحظى به الحوثيون من إيران، ما دفع السعودية وعددا من دول الخليج إلى التدخل، وما زالت اليمن تعاني، حتى هذه اللحظة، من عذابات الحرب في ظل اقتصادٍ منهارٍ وفقر مستشرٍ، وأوضاع إنسانية متفاقمةٍ، وضعف الاهتمام الدولي. وفي ليبيا، لم تكتف دول الثورة المضادة بحقيقة ضعف الدولة المركزية الهائل، وتفتت الليبيين بين ولاءاتٍ دينيةٍ ومحليةٍ وإقليميةٍ وسياسيةٍ متعدّدة، وغياب مؤسسات دولةٍ راسخةٍ بل عملت على تأييد انقلاب عسكري آخر بقيادة خليفة حفتر، على غرار انقلاب عبد الفتاح السيسي العسكري. ونظراً لضعف المؤسسات الأمنية المركزية، لم يحقق حفتر أي إنجازٍ يُذكر، وانقسمت ليبيا إلى حكومتين، إحداهما في طرابلس والأخرى في طبرق، حتى يئس المجتمع الدولي من المشهد الليبي وانتشار داعش في سرت وغيرها، وتدخل لدعم حكومة الوفاق الوطني، على أمل إخراج البلاد من الانقسام. أما سورية، فقد تمترس النظام في قوات أمنٍ طائفيةٍ، وطلب دعم طائفي كذلك من مليشيات إقليمية وإيران، بالإضافة إلى روسيا، والتي تدخلت بآلة حربٍ مدمرةٍ، لدعم بقاء النظام في السلطة. وتحولت سورية إلى ساحة حربٍ داميةٍ، راح ضحيتها ربع مليون سوري، وتهجر بسببها نصف الشعب أو يزيد، وفقدت الدولة السورية مئات المليارات من ثروتها المادية والبشرية.
"تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية"
ولو حاولنا تلخيص أهم خصائص العنف الذي استخدمته الأنظمة ضد الثورات، لتحدثنا عن التالي:
أولا: تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية، وتعتمد على خليطٍ هائل من مؤسسات الأمن القمعية، والتي تعمل عادة خارج إطار القانون.
ثانياً: تمارس تلك الأنظمة العنف بشكل يومي ومعتاد ومنظم، وعلى مستويات مختلفة، فالمؤسسات الأمنية، ظلت عقوداً لم تتوقف عن قمع المعارضين وتعذيبهم وسجنهم من خلال محاكماتٍ صوريةٍ، أو عسكرية، ما ساهم من دون شك في إهدار فرص تطوير المعارضة وأحزابها.
ثالثاً: لا يتوقف العنف على قمع مؤسسات الأمنية والتعذيب، بل يمتد إلى الدساتير، والتي تبيح محاكمة العسكر المدنيين، وتحظر الأحزاب، وتعاقب القوانين ومؤسسات القضاء خصوم النظام بإعلانهم "إرهابيين"، وتحظرهم وتجرّمهم، بل تنشر مؤسسات الإعلام الرسمية العنف والكراهية ضد خصوم النظام، وتشارك المؤسسات الدينية الرئيسية في الدولة في التعتيم على العنف، وشرعنته داخلياً وخارجياً.
رابعاً: العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات، وجرّ الثورات إلى العنف هو غاية من غايات النظام، حتى يسهل تشويه عمليات التحول الديمقراطية وتخويف الخارج منها.
خامساً: تجد الأنظمة دعماً خارجياً إقليمياً ودولياً من الديكتاتوريات العربية وإسرائيل وروسيا واليمين الغربي، يمدها بالمال والسلاح والمليشيات والدعم السياسي، لقمع شعوبها والهروب من العقاب.
سادساً: تحت العنف المفرط قد تضيع بوصلة بعض أبناء الجماعات السياسية الجادّة ولو فترة. ولكن، نأمل أن يرسخ شركاء الربيع العربي وعيهم بطبيعة ثوراتهم المنادية بالحقوق والحريات والديمقراطية القائمة على التبادل السلمي للسلطة، وبناء مؤسساتٍ دولةٍ محترمةٍ، ترعى هذا التبادل وتدافع عنه، وأن يدرك الشباب طبيعة العنف استراتيجيةً راسخةً، ومفضلة الأنظمة الاستبدادية والثورات المضادة.
هذا المقال لا يعبر الا عن رأي كاتبه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.