لا يمكن الحديث عن تماسك النظام السوري وعدم تفككه بفعل الثورة السورية المستمرة منذ سبعة أشهر، دون تناول الدعم الهائل الذي اكتسبه نظام بشار من التقاعس الدولي وعدم اتخاذ مواقف دولية حاسمة لغل يد النظام البعثي ضد المدنيين وتقييد قدراته العسكرية. وقد استغل نظام البعث الموقف الدولي المتقاعس والتناقضات بين الدول الكبرى لكي ينفرد جيشه بالثوار المدنيين، واستفاد نظام الأسد من تلكؤ المجتمع الدولي في التعامل مع إجراءات القمع التي ظل السوريون يكابدونها منذ شهر مارس الماضي على يد الجيش البعثي، الأمر الذي ساعد النظام المجرم على إتقان ممارسات التعامل مع المتظاهرين المسالمين، من قبيل مداهمة صفوفهم، وتفريق مجاميعهم، وإبطال زخمهم الجماهيري، وقتلهم، واعتقالهم، باستخدام كافة أشكال القوة المفرطة. وهكذا مكّنت المواقف الدولية المتقاعسة في زيادة معدلات إجرام النظام البعثي، كما مكنت النظام من أن يظل متماسكًا رغم قوة الثورة، وهذا كله ساهم في عدم تمكن الثورة الشعبية من تحقيق اختراقات واضحة في طريق زعزعة النظام، وقد أدى ذلك إلى ضخامة التكلفة البشرية التي يتكبدها السوريون للحفاظ على ثورتهم. ورغم أن أعداد المنشقين عسكريًا في تزايد مستمر، ووصلت إلى عشرة آلاف منشق، فإن الانشقاق مازال ضعيفًا ولا يمكن التعويل عليه إلا إذا وصل لدرجة معينة تشكل خطرًا حقيقيًا على النظام السوري وتشكل حماية حقيقية للثورة. وفي ظل التراخي الدولي، فإنه حتى لو وصل الانشقاق العسكري لدرجة الخطورة، فإنه لا يستبعد لجوء نظام الأسد لسلاح الطيران الحربي ضد المتظاهرين. عرقلة الإدانة الفيتو الروسي الصيني المزدوج الذي أفشل إدانة النظام السوري لاستخدامه العنف ضد المتظاهرين السلميين، استخدمته روسيا والصين لأول مرة منذ عقود، لتنهيان به الهيمنة الأمريكية على المنظمة الدولية، فهما كانتا تخوضان أولًا معركة سياسية خاصة بهما مع الولاياتالمتحدة، وثانيًا كانتا تريدان دعم النظام السوري وتعويمه. وعندما تقدمت الدول الأوروبية بمشروع القرار إلى مجلس الأمن لإنزال العقوبات على النظام السوري، كانت تدرك بالطبع أن كلًا من روسيا والصين سوف تستخدمان حق الفيتو، وأن القرار لن يمر. لو أرادت الولاياتالمتحدة وأوروبا منع الفيتو الروسي – الصيني لفعلتا، فهما تملكان من وسائل الضغط والإغراء لكل من روسيا والصين ما تستطيعان به دفعهما إلى الموافقة على القرار، ولكن القوم لا يريدون أن يفعلوا ما فعلوه في الملف الليبي، حيث استصدروا قرارًا من مجلس الأمن، ليس فقط بتوقيع عقوبات على نظام القذافي، بل السماح بالتدخل العسكري عن طريق حظر الطيران على قوات القذافي، وضربه بالطيران في كل مكان، مما أدى في النهاية إلى إزالة نظام القذافي ونجاح الثورة الليبية. روسيا والصين أظهرتا وجهًا أنانيًا ومقيتًا، وأكدتا أنهما ما تزالان دولتين غير ديمقراطيتين، فليس هناك برلمانات تترجم الإرادة الشعبية وتفهم معنى ثورات الشعوب الأخرى وسعيها للتخلص من الديكتاتورية والقمع ومن الأنظمة الشمولية. فهاتان الدولتان غير الديمقراطيتين كانتا تتمتعان بعلاقات خاصة مع النظم العربية الاستبدادية، مثل النظامين الليبي والسوري، وكان لهما مصالح اقتصادية كبيرة ومتشعبة مع هذه النظم، وحينما جاء الربيع العربي، ظهرت أنانية وضيق أفق وعدم ديمقراطية روسيا والصين، فدعمت هذه النظم ضد شعوبها وأمدتها بالسلاح لتقتل به المتظاهرين السلميين، ووقفت بجوار النظم القمعية لتدعمها في المحافل الدولية. الرهان على النظم الاستبدادية وهذا الموقف يعكس أنانية وضيق أفق، فمساندة ثورات الشعوب هو الموقف الأقرب منطقية، فمن ناحية فإن الرهان على النظم العربية الاستبدادية يعكس سوء قراءة للواقع العربي في البلاد التي تشتعل فيها الثورة، لأن المنطق والتحليل الدقيق يقولان إن الثورة حينما تبلغ مبلغًا معينًا من الضخامة وعدم الخوف ومرور وقت كاف دون تراجع ومع سفك دماء الأبرياء المستمر، عند هذا الحد تقول علوم السياسة إن الثورة ستنجح لا محالة، وإن النظام القمعي سينهزم في النهاية مهما كانت أساليب تعويمه ومساعدته، دوليًا وإقليميًا. ومن ناحية أخرى فإن النظام السياسي الناشئ بعد الثورة لن ينسى المواقف الدولية المؤيدة للثورة والمعارضة لها. فإذا كانت روسيا والصين تحتجان بالعقود والمصالح التجارية والاقتصادية كمبرر لمساندة النظامين الليبي والسوري، فإن الدول التي ساندت ثورة الشعبين من المنطقي أن يكون لهما الأولوية بعد نجاح الثورة، وأن يكون للنظام الثوري الجديد موقف أقل تعاونًا تجاه روسيا والصين. ربما يكون الموقف الروسي – الصيني منطلقًا من غلق جميع الأبواب أمام التدخل الخارجي العسكري في الشأن السوري، منطلقًا من أن الفيتو يمنع الوصول لهذا المستوى من التدخل، وهذا كلام غير مسلم به، لأن أمريكا وأوروبا – من ناحية - لو أرادتا لدفعتا ثمن التعاون الروسي الصيني، ومن ناحية أخرى فإن التدخل العسكري الخارجي يمكن أن يأتي من طرق شتى، وعبر طرق التفافية أقصرها تسليح ودعم التكوينات المدنية وتحويل الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة. خطورة الفيتو الروسي – الصيني أنه أعطى النظام السوري فسحة من الوقت لالتقاط الأنفاس، وقضى على آمال بعض المعارضين السوريين الذين تمنوا ضغطًا دوليًا على نظام الأسد، يصل إلى تدخل دولي، تحت الإشراف الكامل للأمم المتحدة وليس حلف شمال الأطلنطي، لحماية المدنيين السوريين من آلة القتل البعثية الهمجية. المؤكد أن الفيتو الروسي الصيني لن ينقذ النظام السوري، ولن يخرجه من أزمته، ولكن الشعب السوري وحده، والتغيير الديمقراطي الشامل والجدي هو الوحيد الذي يمكن أن يقوم بعملية الإنقاذ هذه. والمؤكد أيضًا أن هذا الفيتو الروسي - الصيني سوف يتسبب في إطالة أمد معاناة السوريين، لأن نظام بشار سيعتمد عليه كتكأة لمواصلة عمليات القمع والقتل. الخطأ في الموقف الروسي أنه يتوهم بأنه يمكن إيجاد حل سياسي للأزمة السورية عن طريق الحوار، بينما لا يبدي حسن نية ويستمر في ممارسة القتل والاعتقال والتنكيل ولا يعترف بالمعارضة الحقيقية. ونسى القادة الروس أيضًا أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن القاتل المجرم الديكتاتور لا يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها إلى ملاك ديمقراطي عادل ونبيل. الأنانية الاقتصادية وضيق الأفق ولكن المؤكد أن الموقف الروسي تعرض لضغوط كثيرة بعد الفيتو، وهو ما تأكد بعدما وضع الرئيس الروسي القيادة السورية أمام خيارين لا ثالث لهما: الإصلاح أو الرحيل. وهذا موقف قد يكون له ما بعده، وقد يتطور مستقبلًا إذا ما تطور الموقف الغربي نفسه من موقف انتهازي أناني إلى موقف أخلاقي، يتصدى لجرائم النظام السوري ويمنع سفك دماء المتظاهرين السوريين السلميين العزل. وإذا كان الموقفان الروسي والصيني يمكن تفسيرهما من واقع الأنانية الاقتصادية وضيق أفق الرؤية السياسية وعدم الضغط الغربي، فإن الموقف الغربي المتقاعس يمكن تفسيره بأن استمرار نظام بشار حاجة أمريكية صهيونية، وضرورة للحفاظ على أمن إسرائيل، بل إن الغرب وأمريكا وإسرائيل يعملون جاهدين على ترديد الدعاية البعثية بأن النظام السوري معاد حقيقي لأمريكا وإسرائيل، وهي دعاية يستفيد منها المشروع الصهيوني في المقام الأول. وإذا كان وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي قد قدموا رسالة شديدة اللهجة إلى النظام السوري بختام اجتماعهم في لوكسمبورغ مؤخرًا، وقالوا إن على بشار الأسد التنحي وإفساح المجال لحصول انتقال في السلطة، وإن القمع المتواصل ضد المحتجين في البلاد قد يصل إلى درجة الجرائم ضد الإنسانية. وإذا كانوا قد رحبوا بتشكيل المجلس الوطني السوري الذي يضم قوى المعارضة، فإن المواقف الفعلية على الأرض ستكون هي الفيصل الأخلاقي وليس الكلام والبيانات. فإذا أردنا حساب نظام البعث السوري استراتيجيًا وتاريخيًا، لتأكدنا أنه لم يطلق طلقة واحدة ضد إسرائيل في الوقت الذي ملأ ويملأ الدنيا دعاية وصياحًا وعويلًا بأنه رأس الحربة في المواجهة العربية ضد إسرائيل. وهذا هو ما تريده أمريكا وإسرائيل تمامًا، فهما تريدان نظامًا كاذبًا يتحدث في العلن ولا يفعل شيئًا في الحقيقة والواقع. وتعتقد أمريكا وإسرائيل أنه لو تمت الإطاحة بنظام البعث السوري وتشكل نظام سياسي سوري يعبر عن الإرادة الشعبية السورية، فإن المعادلة السياسية والعسكرية سوف تتغير تغيرًا حقيقيًا تجاه تحرير الجولان والمساهمة في تحرير فلسطينالمحتلة. الترنح السياسي والهذيان ولسوء الحظ فإن النظام السوري استغل هذه المواقف الدولية الانتهازية والمترددة لكي يستمر في معادلة الحل الأمني والقمع والقتل، ولكي يتاجر بالإصلاح السياسي ويجعله مادة إعلامية ودعائية فقط. وكان نتيجة ذلك أن عدد شهداء الثورة السورية وصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف، وهناك من يقول إن العدد يتجاوز خمسة آلاف شهيد. من المؤكد أن تأسيس المجلس الوطني السوري قد شكل ضغطًا كبيرًا على نظام بشار، خاصة مع بدء اعتراف بعض الجهات به، ومع استضافته في تركيا وفي غيرها، وبدء المفاوضات الرسمية معه. وقد وضح ذلك في تصريحات وزير الخارجية السوري، الذي حذر أية دولة من الاعتراف بالمجلس الوطني بأنه سيتم اتخاذ إجراءات مشددة ضدها، كما حذّر بعض الدول التي تعرّضت فيها السفارات السورية للاعتداء من المعاملة بالمثل. الوزير يكاد يهذي، فما الذي يمكن أن تفعله سوريا وهي في هذا المأزق مع أمريكا أو دول أوروبية كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا؟ الترنح السياسي والهذيان، عبر عنهما بصورة أكبر، مفتي سوريا، الشيخ أحمد بدر الدين حسون، عندما هدد العواصمالغربية بوجود من وصفهم ب"الاستشهاديين" على أراضيها، وقوله: "في اللحظة التي تطلق فيها أول قذيفة على سوريا ولبنان فسينطلق كل واحد من أبنائهما وبناتهما ليكونوا استشهاديين على أرض أوروبا وفلسطين.. الاستشهاديون عندكم الآن، إن قصفتم لبنان أو سوريا، فبعد اليوم العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم". وهذا كلام تقوله منظمة أو عصابة لا دولة، وهو كلام يعبر عن فشل دبلوماسي كامل وإحساس بالضعف والخوف وقرب النهاية، ولا يعبر عن إحساس بالقوة أو ثقة بالنفس، لأن أركان نظام بشار يدركون حجم الجريمة التي يرتكبونها في حق شعبهم ووطنهم، وأنها جريمة لا يمكن أن تسقط بالتقادم، وسيأتي وقت الحساب بشأنها. المصدر: الإسلام اليوم