إنه ولئن كانت الدساتير في كل الأنظمة القانونية الموجودة لم تختلف على جعل البرلمانات هي صانعة القوانين ، فلقد منحت للقضاء في نفس الوقت حق بل واجب الرقابة على جودة وكفاءة وسلامة ما تنتجه هذه البرلمانات من قوانين وتشريعات. والرقابة تعني فحص القانون بمنتهى الدقة من كل الجوانب بغرض التأكد من صلاحيته وعدله وقدرته على تحقيق الغايات المنوطة به. والرقابة القضائية على أعمال البرلمان ربما تكون سابقة على إصدار القانون ، وهي ما تسمي بالرقابة السابقة على القوانين ، وربما تكون رقابة لاحقة أي تالية على سن القانون ودخوله حيز التطبيق بالفعل. وسواء كانت الرقابة القضائية على أعمال السلطة التشريعية سابقة أم لاحقة ، فهي لا تتم بكمال ومصداقية إلا إن كان القضاء قد بسط هيمنته وسلطانه الفعلي المطلق على القانون المراد فحصه للتأكد من صلاحيته للتطبيق على أفراد المجتمع الذين لن يكون لهم أي اختيار في الخضوع أو عدم الخضوع له بعد ذلك. ولقد أعطى دستور مصر الحديث الاختصاص للمحكمة الدستورية العليا لتعمل سلطتها في مراقبة بعض القوانين رقابة دستورية سابقة ، ومن هذه القوانين قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية. ومن ثم فلا يحق للسلطة التشريعية أن تصدره إلا بعد أن يدمغه قضاء المحكمة الدستورية بخاتم القبول والصلاحية للإصدار والتطبيق ، وإلا صدر منعدماً لا أثر له. فسابقة كانت هي الرقابة أم لاحقة ، فلقد شرعت لتعطي المحكمة الدستورية حق تعطيل صدور القانون أو إلغائه مادامت قد وجدته غير صالح للتطبيق ، وهذا هو الهدف من الرقابة القضائية على دستورية القوانين، وإلا تحولت لمجرد إجراء شكلي غير فاعل ولا مجدٍ. وبمقتضى سلطتها هذه ، فلقد بسطت المحكمة الدستورية هيمنتها الرقابية السابقة على مشروع قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية ، فوجدته وقد حرم ضباط وأفراد القوات المسلحة وهيئة الشرطة من ممارسة حق الانتخاب ، فقررت بعدم دستورية هذا الحرمان وأعادت القانون للمشرع ليجري عليه ما يلزم من تعديلات حتى يضحي حقيقاً بقرار صلاحية الصدور والتطبيق. ونظراً لما أثاره هذا القرار من جدل واسع النطاق بين مؤيد ومعارض ، فقد وجدنا أهمية عرض موقف قوانين الدول المتحضرة من هذه المسألة الهامة لنستبين لأي مدى سايرت المحكمة الدستورية التقدم القانوني. نبدأ رحلتنا بفرنسا حيث شهد فيها حق العسكريين في التصويت في الانتخابات تطوراً منذ فترة طويلة ، فحتى سنة 1972 لم يكن المشرع الفرنسي يقر لهم بالحق في التصويت حتى صدر في 13 يوليو 1972 قانون الانتخابات رقم 662 (Code électoral) والذي أقر لهم بهذا الحق. ولقد خضع هذا القانون لعدة تعديلات كان آخرها في 19 يونيو 2012 . وفي هذا القانون نصت المادة 13 منه على أن أفراد القوات المسلحة بالجيوش البرية والبحرية والجوية لهم حق التصويت في الانتخابات بنفس الشروط التي تسرى على كافة المواطنين ، وذلك سواء كانوا عاملين بالجيش بصفة دائمة أو بعقود مؤقتة. ومهما كانت أماكن تواجد أفراد هذه القوات فلهم الحق في طلب التسجيل في الكشوف الانتخابية المشار إليها بالفقرة الأولى للمادة 12 من هذا القانون. وقراءة هذا النص الذي ترجمناه من الفرنسية ، تؤكد أن القانوان الفرنسي قد حرص بشدة على بذل حق المشاركة بالتصويت في الانتخابات لكل فرد من أفراد الجيوش الفرنسية التي عددها المشرع ليعطي أثراً قانونياً لا يستثني أي عنصر من عناصرها. فسواء كانت هذه القوات على أرض الوطن أم خارجه ، فلهم حق التسجيل في الكشوف الانتخابية ليضطلع كل فرد منهم بحقه الدستوري في التصويت كأي مواطن فرنسي. ونظرة في القانون الانجليزي تجعلنا نرى المشرع هناك وقد منح لأفراد القوات المسلحة حق التسجيل في الكشوف الانتخابية وبالتالي حق الانتخاب. فوفقاً لقانون إدارة الانتخابات الانجليزية الصادر في 2006 Electoral Administration Act 2006 ، وتحديد في الفقرة (3C) الواردة في المادة 13 من الجزء الثاني المنظم لتسجيل الناخبين ، نجد المشرع يوجب على وزارة الدفاع أن نحتفظ بكل البيانات الانتخابية المتعلقة بكل فرد من أفراد القوات المسلحة الانجليزية ، كما تنص الفقرة (3D) من ذات المادة على أنه يجب على وزارة الدفاع أن تتخذ كل ما يلزم من ترتيبات لتمكين كل فرد من أفراد القوات المسلحة من تحديث بياناته سنوياً في قواعد الناخبين. ومن أوروبا إلي أمريكا الشمالية حيث الولاياتالمتحدة وشقيقتها كندا ، نجد أن القانون الأمريكي كان أقدم القوانين الذي منح أفراد القوات المسلحة الأمريكية الحق في التصويت في الانتخابات بكل أنواعها سواء الفيدرالية أو تلك التي تجري على مستوى المقاطعات أو على المستوى المحلي في المدن. فلقد أفرد المشرع الأمريكي الفيدرالي قانوناً خاصاً لضمان هذا الحق لكل أفراد الجيش الأمريكي بكل أسلحته ، وقد سماه صراحة قانون حقوق القوات المسلحة في التصويت . Military Voting Rights Act لم يفارق الكنديين أقرانهم في فرنسا وانجلترا وأمريكا ، ففي المادة 11.a من الجزء (11 ) للفصل التاسع من القانون الكندي للانتخابات الصادر تعديله الأخير في سنة2000 (Loi électorale du Canada L.C. 2000) ، نص المشرع الفيدرالي على حق أفراد القوات المسلحة الكندية في الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. سارت على هذا النهج قوانين أغلبية الدول المتحضرة مثل ألمانيا واستراليا والبرازيل وبلغاريا والصين ، بل لم تتخلف عنه دولا أخرى أقل تقدماً مثل الفلبين وهندوراس وجواتيمالا. واليوم يبدو أننا أمام فرصة للحاق بهذا الركب ، ليس فقط بسبب ما قررته المحكمة الدستورية العليا في مصر ، ولكن بفضل ما يؤكده الدستور المصري الجديد والذي نص في الفقرة الأولى من المادة 55 على أن ( مشاركة المواطن في الحياة العامة واجب وطني ، ولكل مواطن حق الانتخاب ، والترشح ، وإبداء الرأي في الاستفتاء. وينظم القانون مباشرة هذه الحقوق). ويتضح من صياغة المادة الدستورية أنها منحت حق التصويت في الانتخابات والاستفتاءات لكافة المواطنين جميعهم بشكل مطلق. ويستدل على هذا الإطلاق في منح الحق من كلمة ( لكل) الواردة في قلب النص. ونحن نرى المشرع الدستوري وقد ذهب أبعد من ذلك ، فجعل المشاركة في الحياة العامة واجب وطني لتكون بمثابة فريضة على كل مواطن وليست مجرد حقاً له. ولم يرد في النص ما يدل على رغبة المشرع في استثناء أي فئة من فئات الوطن من التمتع بهذا الحق أو الخضوع لذلك الواجب. وإنه لئن أجرينا مسحاً شاملا لنصوص الدستور المصري بحثاً عن نص يحظر على أفراد القوات المسلحة والشرطة مباشرة هذا الحق وأداء ذلك الواجب الوطني ، فلن نجد لمثل ذلك أثراً يذكر. غير أن صوتاً يدعي أن مشاركة القوات المسلحة والشرطة في الانتخابات تعد بمثابة تدخلاً في أعمال السياسة واشتغالاً بها ، وأصحاب هذا الصوت يستندون لما ورد في ديباجة الدستور من أن ( الدفاع عن الوطن شرف وواجب ، وقواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي، وهى درع البلاد الواقي ). والحقيقة أن هذه الجحة وذاك الاستدلال لا يقويان على حمل هذا الرأي الضعيف. فممارسة حق التصويت لا يعد مطلقاً لا اشتغالاً بالسياسية ولا تدخلاً في شئونها ، وإلا اعتبرنا كل الشعب مشتغلاً بالسياسة ومتدخلاً فيها ، ولكان القضاة هم الأولى بالحرمان من ممارسة حق التصويت على أساس أنهم ممنوعون بحكم ما ورد في قانونهم من التدخل في السياسة أو الاشتراك فيها وإلا فقدوا صلاحيتهم لتولي القضاء. والحقيقة المؤكدة أن هناك فارقاً كبيراً جداً لا يخطئه كل متخصص في القانون فضلاً عن كل مثقف بين مباشرة الحقوق السياسية (وهو أمر مكفول لكل مواطن) ، وبين التدخل في السياسة والاشتغال بها (وهو محظور بحكم القانون على بعض الفئات مثل القضاة وأفراد الجيش مثلاً). وأخيراً ، فلا ريب أن الحرمان من الحقوق والواجبات على أساس الوظيفة أو طبيعة العمل هو تمييز مخالف للمبادئ الأساسية التي أرساها الدستور المصري عندما نص على ( المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع : مواطنين ومواطنات ، فلا تمييز، ولا وساطة، ولا محاباة في الحقوق والواجبات) . من كل ما تقدم ، يتبين إذن أن الدستور المصري الجديد قد ساير قوانين الدول المتحضرة فأقر حق بل واجب ضباط وأفراد القوات المسلحة والشرطة في المشاركة بأصواتهم في كل الانتخابات والاستفتاءات شأنهم في ذلك شأن كل أفراد المجتمع المنطبق عليهم شروط ممارسة هذا الحق. كما يتبين أن المحكمة الدستورية قد وقفت كحصن للحريات والحقوق عندما حرصت في قرارها على ضمان عدم حرمان أي مواطن من حقوقه في الإدلاء بصوته في أي انتخابات وذلك بصرف النظر عن وظيفته أو عمله. وقد ترجمت حرصها هذا بما قررته من عدم دستورية ما جاء بمشروع قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية من مخالفة للدستور وتخلف عن نهج قوانين الدول المتحضرة.