الحكم القضائى الذى صدر أول من أمس، من إحدى محاكم الجنح المستأنفة ضد 23 من أجمل وأنبل وأخلص شبابنا (هذا الوصف ليس له علاقة بخطأ أو صواب كل أو بعض آرائهم ومواقفهم) وقضى بعقابهم جميعًا، بمن فيهم 7 بنات فى عمر الزهور، بالسجن لمدة عامين كاملين، فضلًا عن عامين آخرين «مراقبة» بعد انتهاء العقوبة الأصلية (!!) أما سبب هذا الحكم الثقيل، فهو أن الشباب هؤلاء خرجوا فى مظاهرة سلمية لم تستمر سوى أقل من نصف ساعة ومارسوا (ربما بحماس زائد) ما ظنوا أنه حقهم الطبيعى والدستورى فى التعبير عن الرأى، فإذا بهم يعاملون بشدة وقسوة نادرتين فى تاريخنا القضائى (هل تتذكر حضرتك الآن، الرحمة و«الرقة» والتسامح الجميل الذى تمتعت به العام الماضى فتيات «7 الصبح» المنتمين إلى عصابة إخوان الشياطين؟!). بهذه المناسبة التعيسة جدا لم أجد ما أملأ به فراغ هذه المساحة سوى أن أعيد نشر سطور سبق أن كتبتها هنا منذ شهور قليلة تحت العنوان نفسه الذى ينتصب فى الأعلى أمامك، وقلت فيها: .. طبعا، من قبيل التكرار القول بأن ثورة 30 يونيو تفجرت، ليس فقط لكى تستعيد ثورة 25 يناير من براثن عصابة إجرامية عاتية اختطفت هذه الأخيرة ونشلتها وهى تكره وتعادى أهدافها النبيلة وتمقت شعاراتها الراقية، وإنما أيضا انفجرت الثورة اليونيوية الأسطورية تلك حتى تنقذ هذا الوطن دولة ومجتمعا من كارثة محققة وخطر وجودى رهيب لم نواجه مثيلا له فى تاريخنا الحديث كله. غير أننا بعد نجاح المشهد الافتتاحى الأسطورى لثورة يونيو واجهنا أزمة عاتية ونادرة فى عمقها واتساعها وقسوتها (تكاد تتفوق على أزمة هزيمة يونيو 1967)، إذ فرضت علينا عصابة إخوان الشياطين وأتباعها القتلة حربا قذرة غير مسبوقة فى عنفها وضراوتها، ولم يكن من سبيل ولا خيار أمامنا إلا أن نخوضها مسلحين بوحدتنا وتصميمنا على النصر وهزيمة المجرمين الأشرار وكسر شوكتهم المسمومة إلى الأبد. غير أن هذه الحرب لم تكن العنصر الوحيد فى الأزمة، لأن المجرمين شنوها علينا، بينما البلد منهك ومرهق وفى أسوأ حال، بعدما ظل رازحًا على مدى نحو أربعة عقود كاملة تحت وطأة نظام حكم فاسد، وتابع أشاع الخراب الشامل فى أركان وأحشاء الدولة والمجتمع على السواء. إذن كان قدرنا -وما زال- أن نخوض الحرب على جبهتين خطيرتين فى وقت واحد، أولاهما الجبهة التى يتحصن فى خنادقها القتلة المخربون، والثانية جبهة الجهاد والعمل الشاق لكى نرفع ونتخلص من ركام الماضى الأليم ونشرع فورًا وبغير إبطاء فى بناء الوطن الذى نحلم به ناهضًا متقدمًا محررًا من القهر والظلم والبؤس، ينعم أهله بالعدالة والحرية والمساواة. والحق أننا تقدمنا ومشينا مسافة كبيرة ومُرضية على الجبهة الأولى، وبدأ عنف المجرمين القتلة يتراجع على نحو ملموس وملحوظ، ومع ذلك ما زال خطرهم، وإن ضعف، قائمًا وقدرتهم على العربدة والتخريب لا تزال فيها بقية تكفى للإزعاج وإلحاق صور مختلفة من الضرر والأذى. ولكن المشكلة الحقيقية الآن تكمن فى أوضاعنا على الجبهة الثانية (هى الأهم والأخطر)، أى جبهة بناء المستقبل والخلاص من زبالة الماضى المتراكمة على كل صعيد، وبصراحة والتزامًا بمقتضيات الضمير الوطنى، لا بد من الاعتراف بأن وضعنا الحالى فى تلك الجبهة ليس على ما يرام، بل هو وضع حرج ومأزوم ومعبأ باحتقانات أغلبها كان يمكننا تجنبه، لكننا صنعناها لأنفسنا بأيادينا، وكلها، بغير استثناء واحد، أقوى أسبابها يعود إلى هذا البؤس الشديد والفقر المدقع فى السياسة، بل واحتقارها والاستغناء التام عنها واستبدالها بغشم وجلافة الإجراءات الإدارية والاستثنائية.. يعنى مثلا، هناك فى الوقت الراهن أزمة خطيرة مع شريحة الشباب المتعلم، وهؤلاء قطاع لا يحتاج وصف أهميته الحيوية فى المجتمع إلى شرح كثير أو قليل، كما أن مساحة أخرى تتعاظم وتتسع يوما بعد يوم من النخبة الوطنية المثقفة والشريفة، وبدأ القلق والتململ يتسرب بقوة إلى صدورها تحت ضغط وإلحاح شعور يتفاقم ويتعاظم يومًا بعد يوم بأن المسار يبدو عشوائيا وفوضويا تمامًا، وطريق البناء السياسى (الديمقراطى بالذات) والاقتصادى والاجتماعى، الذى هو أصلا صعب وطويل، أخذ فعلًا يتعرج ويتلوى وتعترضه عقبات وعثرات تتكاثر وتتزايد من دون داعٍ، بما يهدد بانتكاسة لا نحتملها أو انحراف حاد قد يأخذنا -لا قدّر الله- بعيدًا عن الأهداف الرائعة التى ثار من أجلها المصريون ثورتين عارمتين وأسطوريتين، فى أقل من ثلاث سنوات.. . هل يبدو هذا الكلام عموميا جدا وسباحة فى التجريد البرىء أو المتعالى على وقائع وقضايا محددة؟! نعم، هو كذلك بالفعل، لكنه مجرد مقدمة ضرورية لحديث آخر أكثر وضوحًا وتفصيلًا، أعد القراء الأعزاء بأن أفتحه معهم قريبًا، إن شاء الله.