691 يوما مضت منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى كتابة تلك السطور، الاحتلال الإسرائيلى يواصل العربدة فى المنطقة، ما بين عمليات إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، وتوسع فى الأراضى السورية بعد سيطرته على جبل الشيخ واستغلال أزمة السويداء لتوسيع نفوذه داخل الساحل الغربى لسوريا، كأولى خطوات تقسيمها. تصريحات أعضاء الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، على رأسها تصريحات رئيسها "بنيامين نتنياهو" تشير إلى مواصلة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل فى قطاع غزة؛ فى الوقت الذي تقوم فيه قوات الاحتلال بتسليح المستوطنين فى الضفة العربية لمهاجمة المواطنين الفلسطينيين، والعمل على توسيع المستوطنات، كإحدى عمليات إعادة إنتاج ما حدث قبل 78 عاما، عندما قامت العصابات الإسرائيلية بالاعتداء على الأراضى الفلسطينية والاستيلاء عليها بالقوة تحت حماية الاحتلال الإنجليزى. الآن يعاد إنتاج نفس المشهد، وسط صمت عالمى مريب على تلك الجريمة، باتجاه تصفية القضية، ووضع المنطقة العربية أمام واقع جديد تتغير فيه الحدود وتذوب فيه دول، فتتحول إلى دويلات، وتنتج أخرى. تلك التحركات الإرهابية لم يكن لها أن تحدث إلا بتواطؤ دولى مريب؛ فالمشهد كأنه يعيد إنتاج أحداث 1947 وما قبلها من اعتداءات صهيونية على أصحاب الأرض من الفلسطينيين؛ فسرقت الأراضى وهجرت قرى بأكملها، وأقيمت مذابح للفلسطينيين من أجل إخراجهم من وطنهم، بعد أن أعطى من لا يملك لمن لا يستحق ورقة موقعة بالدم. الأوضاع فى الأراضى الفلسطينية تزداد سوءا، يوما بعد آخر.. العمليات العسكرية الإسرائيلية، بدءا من السيوف الحديدية وانتهاء ب "عربات جدعون" لا تعرف سوى القتل والتدمير برعاية أمريكية كاملة، ودعم غربى على أرض الواقع، رغم التصريحات الدبلوماسية الغربية باستنكار ما يجرى ضد الشعب الفلسطيني. كما تواصل إسرائيل رفضها لوقف إطلاق النار رغم المطالبات الدولية لها بذلك، وهو ما يكشف حجم الكارثة الإنسانية التى يعانى منها الفلسطينيون فى قطاع غزة والضفة الغربية.. ما بين عملية التجويع الممنهجة وعمليات الإبادة المسلحة. لقد بات واضحا للعيان أن إسرائيل تستهدف خلال المرحلة الحالية قطع الطريق على أى محاولة للوصول إلى حل الدولتين. ففى الضفة الغربية تشهد هجمات إسرائيلية واعتقالات وانتهاكات مستمرة، تشمل اقتحامات لمدارس وقرى والتنكيل بالمدنيين، مع تدمير مشاريع مدنية مثل مدرسة شمال الضفة، وفى غزة يجرى تنفيذ أكبر عملية إبادة. فى الوقت ذاته تواصل مصر العمل على إدخال المساعدات إلى الأشقاء الفلسطينيين فى قطاع غزة للتخفيف من حدة الأزمة، مع استمرار فتح معبر رفح من الجانب المصرى. فقد دخلت القافلة رقم 25 من "زاد العزة من مصر إلى غزة"، وهي الأحدث حتى كتابة تلك السطور، وقد انطلقت صباح يوم الخميس 28 أغسطس 2025 من مصر، محمّلة بأطنان من المساعدات تشمل أجهزة طبية، مستلزمات الأطفال، أدوية، أغذية جافة ومعلبة، مياه وملابس. وتم تجهيز الشاحنات وإرسالها تحت إشراف الهلال الأحمر المصري، وهي تأكيد على استمرار جهود الإغاثة بالرغم من العراقيل التي فرضها الاحتلال والظروف الصعبة على الأرض. كما ذكرت منظمة الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن نسبة مداخلات قوافل المساعدات قليلة جدًا ولا تغطي سوى أقل من 15% من الاحتياجات اليومية للقطاع، كما أن التوزيع غالبًا ما يتعرّض للسرقة أو الانحراف قبل وصوله للمستفيدين. (1) يبدو أن سيناريوهات محاولة إعادة إنتاج الفوضى فى المنطقة باتت تطل برأسها من جديد، مستغلة ما تم خلقه من أحداث وما يشهده الإقليم من توترات، وسط حالة من الاضطراب الدولى، نتيجة استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، التى تعبر عامها الثالث وتقترب من عبور عامها الرابع بعد 6 أشهر فى الوقت الذى كان بعض المحللين يتوقعون فى بدايتها ألا يتعدى عمر هذه المعركة أكثر من شهرين. الأمر الذي يضعنا أمام متغير مهم فى الحروب التقليدية وغير التقليدية خلال العقدين الأخيرين، وهو طول أمد الحرب؛ فرغم التحديات الاقتصادية والعسكرية التى تواجهها الدول المتحاربة إلا أن عدم الوصول لتحقيق الهدف الاستراتيجي لتلك المعارك ساهم فى إطالة أمد الحرب وهو ما وضع الدول أمام تحديات اقتصادية كبيرة. فرغم المساعدات الغربية الضخمة لأوكرانيا إلا أنها لا تزال تواجه أزمات اقتصادية، خاصة فى ظل حالة الدمار، فتحتاج إلى 400 مليار دولار لإعادة الإعمار. أما روسيا فقد تأثرت اقتصاديا فى بداية الحرب عام 2022 إلا أنها سرعان ما تعافت، لكنها تواجه ضغوطا مالية هذا العام، مما جعلها تفرض المزيد من الضرائب للإنفاق على العملية العسكرية. بالإضافة إلى هروب معظم الاستثمارات الأجنبية من البلدين، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية بهما. وفى منطقة الشرق الأوسط يواجه الاقتصاد الإسرائيلى انكماشا رغم الدعم الأمريكي والغربى المتواصل له، وتوقع الخبراء مواصلة انخفاض النمو الاقتصادي الإسرائيلى فى ظل ارتفاع الإنفاق العسكرى، الذي يبلغ 34 مليار دولار هذا العام، بزيادة قدرها 6 مليارات دولار عن العام الماضي. هنا كان التحرك من جديد نحو إعادة إنتاج الفوضى فى المنطقة وفق عدة سيناريوهات لتحقيق أهداف قوى الشر فى المنطقة وإعادة تقسيمها. السيناريو الأول: يعتمد بشكل كبير على خلق حالة من التأثير على العقل الجمعى داخل المجتمعات المستهدفة من خلال الصورة المصدرة إليه من الخارج، ليؤكد عدم قدرة الدولة على مواجهة التحديات، وتصدير نموذج الدولة الفاشلة للمجتمعات، ويتم العمل على هذا السيناريو باستخدام أدوات وعناصر خارجية (كتائب إلكترونية، أفراد ينتمون إلى تنظيمات تم إعدادها بعناية، تجار المشهد السياسي الباحثون لأنفسهم عن مكان داخل المشهد من جديد). يحصل منفذو هذا السيناريو على الدعم المادي بشكل غير مباشر والدعم اللوجيستى والمعلوماتى من خلال قنوات اتصال محددة تم استخدامها فى السابق، خلال العقدين الأخيرين. فقد تم تدريب تلك العناصر فى عدد من الدول على كيفية صناعة الفوضى داخل المجتمعات. ويعد هذا السيناريو أقل تكلفة وأكثر تاثيرًا، للوصول إلى الفوضى الداخلية، وهو ما يعرف بالفوضى المصدرة. السيناريو الثاني: يعتمد بشكل أساسى على صناعة الفوضى من الداخل وفق مجموعة من الأدوات، بدءًا من بعض معارضي النظام المعلبين، وهنا لا أقصد المعارضة التى تضع نصب عينيها الحفاظ على الدولة والأمن القومى، لكنها تختلف مع النظام فى أسلوب إدارة بعض الملفات. لكننى أقصد المعارضة المدعومة من قوى الشر، والتى لا تؤمن بالوطن إنما تؤمن بأمر واحد وهو إشعال الفوضى من أجل حصد المكتسبات، حتى وإن كان الثمن خراب وتدمير الأوطان مثل التنظيم الإرهابى أو ما يسمى بالإخوان. كما يعتمد هذا السيناريو أيضا على الكتائب الإلكترونية والخلايا النائمة داخل المؤسسات، خاصة المؤسسات الخدمية، حيث تعمل على خلق حالة من عدم الرضى داخل المجتمع عن أداء النظام، مما يساهم بشكل كبير فى خلق حالة استعداد لدى المجتمعات للمساهمة فى الفوضى. كما يستهدف هذا السيناريو تنفيذ عملية استهداف ممنهجة لتحييد أو تشويه مؤيدى النظام، إما من خلال استهداف صفحاتهم على السوشيال ميديا أو من خلال تشويه صورهم عبر صفحات أخرى بتقديمهم على أنهم أعوان الفساد، أو دفع مجموعات وكتائب إلكترونية إلى صفحاتهم بالتعليق على أى محتوى يقومون بنشره، فيستهدفونه بالتشويه والسب والقذف، مما يجعل البعض من هؤلاء يتوقف عن النشر لتوضيح الصورة أو عن دعم وتاييد النظام. وهنا تستخدم تلك المجموعات مفردات محددة يتم تكرارها وهى مفردات سيئة الدلالة، الأمر الذي يخرج مؤيدي الدولة من المواجهة، وتفرغ الساحة أمام هؤلاء من محترفى الكذب والتضليل. تدريب عناصر من الداخل على عمليات تخريب المؤسسات وحالة اشتعال الفوضى بدعوى الانتقام من النظام الذى وصم بالفساد، وهنا تكون الشعوب هى من دمرت بلدانها بأيدها. (2) يأتى التحرك باتجاه سيناريوهات إعادة إنتاج الفوضى لهدم الدول بعد أن فشل تحقيق هذا الأمر خلال العقد الماضى فى منطقة الشرق الأوسط، لكن المشهد حاليا بات أكثر استعدادا وقابلية لتنفيذه من جديد. فالأزمات الاقتصادية العالمية وتأثيرها على دول المنطقة خلق مناخا مناسبا لعمل عناصر صناعة الفوضى، كما ساهمت الأحداث التى ضربت المنطقة بعد السابع من أكتوبر 2023 فى تهيئة الأجواء لإنعاش الخلايا النائمة للتنظيم الإرهابى للعمل من جديد. تلك الحالة التى نشهدها خلال الفترة الأخيرة من استهداف عناصر التنظيم الإرهابى لصورة الدولة المصرية فى الخارج، والترويج كذبا بأن مصر هى من تحاصر قطاع غزة، وقيام عناصر التنظيم الإرهابى الدولى بالاعتداء على السفارات المصرية، فى الوقت الذي لم يستطع أى منهم الاقتراب من السفارات الإسرائيلية أو سفارات الدول الداعمة لإسرائيل فى حرب الإبادة الجماعية بالأراضى المحتلة. وكأن تنظيم الإخوان الإرهابى وعناصره أصابته حالة من الحول، فيقومون بالاعتداء على سفارات الدولة التى قدمت ولا تزال تقدم أكثر من 70 % من حجم المساعدات ولا تتوقف لحظة واحدة عن التحرك الدبلوماسي من أجل وقف الحرب وإدخال المساعدات والوصول إلى حل الدولتين. لقد عمد تنظيم الإخوان الإرهابى فى البداية إلى استخدام عناصره من الشباب، ثم سرعان ما انتقل للدفع بعناصره النسائية بعد أن تصدى شباب المصريين بالخارج لمحاولات الاعتداء على السفارات. كما قام بتنشيط غير مسبوق لكتائبه الإلكترونية وعملت على تنشيط الصفحات المستهدفة للدولة المصرية والتى تم إنشاء العديد منها قبل أربع سنوات بنشاط ضعيف جدا خلال تلك الفترة ثم تضاعف حجم النشر عليها عشرة أضعاف خلال الشهور الماضية وفق محتوى معد باحترافية لتشويه المشهد والتأثير على العقل الجمعى للشعب. فتم استهداف القوات المسلحة وكذا الحكومة ومؤسسات الدولة والرئيس بمنشورات مضللة، كما قامت المنصات التابعة لتنظيم الإخوان الإرهابي والممولة من التنظيم الدولى وقوى الشر مثل (رصد وصحيح مصر ….) وغيرها من المنصات بمضاعفة حجم النشر خلال الفترة الأخيرة، لخلق حالة من عدم الرضا المجتمعى وفقد الثقة. لقد جاء اعتراف مايكل موريل، نائب رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية "CIA،" السابق، بأن الاستخبارات أخطأت بتقييم نتائج الربيع العربي الذي شهدته عدة دول فى الشرق الأوسط، ملقيا الضوء على ما جرى فى ليبيا ومصر، كاشفا لحجم الدعم الذى تلقاه هذا التنظيم وعناصر أخرى لصناعة الفوضى . لكن يظل وعى الشعب وحرصه على وطنه والحفاظ عليه، ومساندة مؤسساته الوطنية وثقته فى قيادته أحد أهم التحديات التى تواجه قوى الشر ومعاونيها فى تنفيذ الفوضى لإعادة تقسيم المنطقة.