لو حسبناها بالأمريكي فإنها زيارة وصل عدد أصفارها 12 صفرًا وبعده تقريبا (4)، يعني ما يقرب من 4 تريليونات دولار، ولو حسبناها بالخليجي فهي تعدت هذا الرقم بكثير، لكن لو حسبناها ب «العربي» ، ستكون مجرد زيارة «صفرية»، صفر واحد أو ربما مجموعة أصفار متراصة لا بعدها ولا قبلها أي أرقام.. وهذا واقع للأسف يحكيه ما جرى على مدار الثلاثة أيام التي استغرقتها زيارة ترامب لمنطقة الخليج وتحديدًا السعودية وقطروالإمارات. لقد كانت بلا شك زيارة أسطورية، مهدت لها وسائل الإعلام هنا وهناك بكل الصور وأضيئت حولها الأنوار والألوان وفرشت لها السجاجيد الحمراء والبنفسجية وارتسمت لها فى الأذهان صور وقصص وحكايات، ارتفع معها سقف الطموحات حتى وصل الخيال فيها إلى عزم ترامب الإعلان خلال الزيارة عن «قيام دولة فلسطين..!»، إنه أمر فى الحقيقة يدعو إلى السخرية والحزن فى آن واحد، فقد وصلنا إلى هذا الحد من الانخداع، وهذا الحد من الوهن والضعف، وهذا الحد من وضع الأمور فى غير محلها وإهدار حق ومجهود تم بذله على مدار التاريخ وتكونت بسببه مكانة ليست بالقليلة لدول حملت على عاتقها منذ بدأت النكبة وسرقة الأرض، أمانة الدفاع والذود والتضحية من أجل عودة الحق، هل لهذا الحد انخدعنا وننخدع…؟! ونحن من ابتدعنا جملة «ما حكَّ جلدك مثل ظُفرك». هذه الزيارة كانت «تريليونية» لبعض الأطراف ومن وجهة نظرهم، وكانت «صفرية» من وجهة نظر البعض الآخر، فالأشقاء فى الخليج يستثمرون أموالهم فى صفقات غير مسبوقة ستحقق لهم حماية قوية وأمنًا مستدامًا، وتحقق لهم قفزات عسكرية وتكنولوجية وعلمية كبرى، تجعلهم ندًّا للدول المنتجة لتلك التكنولوجيات وتحقق لهم تفوقًا كبيرًا على كثيرين من جيرانهم، وهذا أمر بلا شك يسعد كل العرب فقوة دولة عربية هي قوة لكل العرب، إن خلُصت النوايا، أما من وجهة النظر الأمريكية، والترامبية خاصة، فإن هذه الزيارة حققت لترامب مجدًا ذاتيًا ولسياساته حققت إقرارًا وتأكيدًا، ولشعبيته ارتفاعًا، وللاقتصاد الأمريكي إنقاذًا، خصوصًا بعد الأزمة الاقتصادية الطاحنة جراء ارتفاعات التعريفات الجمركية، فكلنا نتذكر عقب فوز ترامب بالرئاسة الثانية، صرح بأنه يريد أن تكون رحلته الأولى للسعودية مثلما حدث فى رئاسته الأولى التي بدأت عام 2017، وأنه يريد أن يحقق صفقات تبلغ 600 بليون دولار مقارنة بالصفقة التي عقدها فى رحلته الأولى والتي كانت 460 بليون دولار، وكانت المفاجأة فى اتصال مع الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، الذى أبلغه أنه يريد استثمار تريليون دولار وليس 600 بليون دولار، بعدها دخلت الإمارات فى السباق وأرسلت للبيت الأبيض عرض صفقة قدرها 1.4 تريليون دولار، ثم أعلنت قطر عن رغبتها فى عقد صفقات كبرى هي الأخرى، وقد تم ذلك بالفعل ورأينا أن حصيلة الزيارة تصل إلى ال (4 تريليونات دولار) تقريبًا، ولا شك أن ترامب بعد عودته أصبح فى نظر الأمريكان الربان المنقذ والرئيس الأسطوري، الذي أنعش وأعاد الروح والحياة إلى الاقتصاد الأمريكي وأنقذه من الركود والتضخم والضياع تحت أقدام التنين الأصفر. هؤلاء من كانت فى نظرهم الزيارة «تريليونية»، أما من كانت فى نظرهم تقريبا «صفرية»، فهم من رأوا ويرون حتى اللحظة أطفالهم فى غزة يموتون جوعًا جراء الحصار لا يدخل لهم ماء ولا طعام منذ شهور، هم من رأوا وسمعوا أحاديث وصفقات واتفاقيات بالمليارات، ولم يسمعوا جملة واحدة تعطي بارقة أمل لإنقاذهم ووقف النار والقصف الذي يغطي رءوسهم بالليل والنهار، هؤلاء من يرونها «صفرية» حتى الآن، ومعهم حق ومعذورون وغير ملومين، لأن ترامب كونه رئيس أمريكا يستطيع أن يوقف هذه الحرب ويجبر نتنياهو على هدنة طويلة، ويدخل المساعدات دون توقف، ويلغي فكرة التهجير، ويفسح المجال أمام الخطة العربية لإعادة الإعمار والبناء، لكنه لم يفعل، لأنه جاء منشغلاً بنفسه وبأمريكا ولم ينشغل بشيء آخر، جاء مرتديًا قبعته الحمراء المشهورة، كاتبا عليها «ماجا»، والتى تعنى «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وللأسف انشغل من انشغل معه، ربما خوفًا أو طمعًا، وربما قلة حيلة أو هوانًا، وربما تشرذمًا وتقزمًا، وربما لأسباب أخرى. هذه المحصلة الصفرية التي يراها البعض، كان من الممكن ألا تكون موجودة، لو أحسنا استخدام إمكاناتنا وأوراق الضغط التي لدينا وحاجة الآخر لنا ولما نملكه من إمكانات، لكننا للأسف لم نُحسن الاستخدام وقررنا العزف منفردين فهُنَّا على من طمعوا فينا وأرادوا لنا الشر دومًا. لقد جاء ترامب وذهب.. ولا نزال نعاني من الأزمة والحرب والحصار فى غزة. جاء ترامب وذهب.. ولا تزال الأزمة فى اليمن كما هي والشعب اليمني يعاني. جاء ترامب وذهب.. ولا تزال السودان يصرخ من الاقتتال والصراع الداخلي والتدخل الخارجي فى شئونها. جاء ترامب وذهب.. وليبيا منهارة ومشتعلة بسبب استمرار وتجدد الصراع بين الميليشيات المسلحة. جاء ترامب وذهب.. ولا تزال سوريا تحت وطأة التقسيم والأطماع التركية والإسرائيلية والأمريكية فقد كان من الأولى بدلاً من أن يخدعنا برفع العقوبات أن يرحل هو وجنوده ومعهم «قسد» عن آبار الغاز والبترول فى الشمال الشرقي السوري ويتركه للسوريين، وأن يبعد إسرائيل وتركيا «والجولاني» وأعوانه عن التراب السوري، ألم يكن ذلك أولى؟! جاء ترامب وذهب.. ولا يزال الوضع المشتعل كما هو، ولا تزال مصر تقف تقريبًا وحيدة، تحارب فى جبهات عدة من أجل أمتها العربية ومن أجل أشقائها، وقضاياهم ومصالحهم وأمنهم، ورغم الصعوبات وقلة الإمكانات، إلا أنها لا تزال صامدة وقادرة على قول «لا»، وستظل لأن هذا قدرها، قدر الشقيقة الكبرى، درع الأمة العربية وقلبها النابض أبدًا ودائمًا. حفظ الله مصر وشعبها وجيشها