الأسبوع قبل الماضي شرفت ضمن مجموعة من الزملاء من رؤساء التحرير والإعلاميين وطلبة الجامعات وعدد من طلبة الكليات العسكرية، بزيارة مصنع مشتقات البلازما «جريفولز إيجيبت» التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة والذي ينتهي إنشاؤه خلال الفترة المقبلة بالمدينة الطبية بالعاصمة الإدارية الجديدة، والذي يقع على مساحة 105 آلاف متر مربع فى المدينة الطبية بالعاصمة الإدارية الجديدة. التقينا مع رئيس مجلس إدارة الشركة، د. مجدي أمين الذي حرص على الإجابة عن كل الأسئلة، ثم قمنا بجولة داخل المصنع الذي يعد الأول فى الشرق الأوسط وإفريقيا، والذي يجري الاستعداد لافتتاحه قريبًا، كما يعد خطوة استراتيجية فى قطاع الصحة. المهم فى تلك الزيارة أننا عشنا داخل محطة جديدة من محطات الإنجاز الذي يجري تحقيقه فى قطاع من أهم القطاعات تأثيرًا على الأمن القومي المصري، القطاع الصحي. على مدى 3 ساعات كانت الجولة والحوار مع الدكتور مجدي أمين الذي حرصت على أن أجد لديه إجابة فى هذا القطاع المهم، والذي يعد نقلة نوعية فى جودة الرعاية الصحية. ولأنني ممن يحرصون على التبرع بالدم كل ثلاثة أشهر، وأدعو كل من يستطيع أن يفعل ذلك أن يبادر بذلك، ولو على سبيل أنه زكاة لبدنه. فتوافر الدم يعد أحد التحديات أمام القطاع الصحي، خاصة أنه منتج لا يمكن تصنيعه، ويرتبط توافر الكميات المطلوبة منه فى المستشفيات بمدى الوعي لدى المواطنين، وأعداد المتبرعين. وهو الأمر الذي جعلني أبادر بسؤال الدكتور مجدي أمين ونحن فى صرح عظيم يدل على تخطيط مُتقن واحترافية فى التنفيذ، وعمل متواصل ليتحول الحلم إلى واقع. سألته: ماذا عن توافر البلازما؟! فكان الرد: أن مصر لم يكن لها أن تبادر بمثل هذا المشروع العملاق فى شراكة مهمة مع شركة من كبريات الشركات العالمية، ما لم تكن لديها كل الإمكانيات، فخلال السنوات الماضية حققنا نتائج مُبهرة فى تجميع البلازما، الأمر الذي جعل أصحاب التجارب المماثلة من الدول الأوروبية بل والمنظمات الصحية الدولية تشيد بما وصلت إليه مصر من قدرة على إنجاز المشروع. فقد تم إنشاء 20 مركزًا للتبرع بالبلازما على مستوى الجمهورية. (1) تعتبر مشتقات البلازما منتجات طبية بيولوجية تُستخلص من البلازما البشرية (الجزء السائل من الدم) الذي يشكل 55% من الدم، يمكن تعويض البلازما للمتبرع بشرب من 2 إلى 3 لترات من الماء، ويتم تعويض الجسم لمكونات البلازما للمتبرع خلال 48 ساعة من التبرع، الأمر الذي يجعل المتبرع قادرًا على القيام بعملية التبرع بالبلازما مرتين فى الأسبوع دون حدوث أي مشكلات صحية له. تُستخدم مشتقات البلازما فى علاج العديد من الأمراض المزمنة والخطيرة مثل الهيموفيليا، نقص المناعة، الحروق، وأمراض الكبد والكلى، وبعض أمراض المناعة الذاتية. تُعتبر هذه المشتقات من الأدوية الحيوية عالية القيمة، ويعتمد استيرادها فى الدول النامية على التوريد من أسواق محدودة بأسعار مرتفعة، حيث بلغ حجم الواردات المصرية من تلك الأدوية 55 مليون دولار، والآن أصبح هناك اكتفاء ذاتي من تلك الأدوية. يأتي مشروع تصنيع مشتقات البلازما كأحد أبرز المشروعات القومية فى قطاع الصحة، والذي من المتوقع أن يُحدث نقلة نوعية فى القدرات التصنيعية والطبية لمصر، ويضعها فى مصاف الدول الرائدة إقليميًا فى هذا المجال. أعلنت الحكومة المصرية عن المشروع القومي لتجميع وتصنيع مشتقات البلازما فى عام 2020، ويُنفذ على مرحلتين: المرحلة الأولى: تتضمن إنشاء مراكز لتجميع البلازما فى أنحاء الجمهورية، حتى عام 2024، تم إنشاء وتشغيل 8 مراكز رئيسية فى كل من القاهرة، الجيزة، الإسكندرية، المنصورة، طنطا، وأسيوط، مع خطط لزيادة العدد إلى 20 مركزًا خلال عامين، وهو ما وصلنا إليه حاليًا على أرض الواقع. المرحلة الثانية: تشمل إنشاء مصنع لتصنيع مشتقات البلازما محليًا، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية المنتجة من مشتقات البلازما، وهو ما تم بالفعل وسيتم افتتاح المصنع هذا العام. سيتم إنتاج 3 أدوية حيوية لعلاج حالات نادرة ومزمنة ومهددة للحياة فى بعض الأحيان، وهي: "الألبومين" الذي يعالج أمراض الكبد والكلى والحروق والحوادث، ودواء الجلوبولين المناعي الذي يعالج أمراض المناعة وبعض أمراض الجهاز العصبي، ودواء فاندى الذي يعالج بعض أمراض نزيف الدم وأهمها مرض الهيموفيليا. سيعمل المشروع على خلق أكثر من 2500 فرصة عمل، وسيعمل هذا المصنع الذي يعد الأول من نوعه فى إفريقيا والشرق الأوسط على تجزئة وتنقية البلازما وتحويلها إلى أدوية مشتقة من البلازما فى صورتها النهائية، ويمكن مضاعفة الطاقة الإنتاجية فى المستقبل لتصل إلى 2 مليون لتر من البلازما سنويًا. كما تعد هذه الشراكة الأولى من نوعها فى مجال جمع بلازما الدم، كما أنها تمثل انضمامًا تاريخيًا «جريفولز إيجيبت» كأول عضو ومصدر مصري فى جمعية العلاجات بروتينات البلازما (PPTA)، والتي تعتبر رائدة عالميًا فى هذا المجال، يُنظر إلى هذا التحالف العالمي بين القطاعين العام والخاص على أنه محفز كبير سيساهم فى تعزيز القطاع الصحي بأكمله فى مصر والمنطقة. كما أن الأدوية المستمدة من البلازما تعتبر علاجًا بيولوجيًا فريدًا من نوعه، يستخدم لعلاج الأمراض النادرة والمزمنة، وفى بعض الحالات الأمراض التي قد تشكل تهديدًا للحياة. وفى الوقت الحالي، تعمل مصر على تبني منظومة متكاملة وطنية للبلازما، تتماشى مع المعايير العالمية، بهدف تعزيز نظام الرعاية الصحية. وتحرص مراكز التبرع وتجميع البلازما على تطبيق معايير السلامة الدولية فى عملية تجميع البلازما، وتشمل فحص المتبرعين بدقة، واستخدام أدوات تعقيم متطورة، وتدريب العاملين وفق بروتوكولات منظمة الصحة العالمية، كما تم التعاون مع هيئة الدواء المصرية لوضع لوائح تنظيمية صارمة تضمن جودة وسلامة المنتجات. تتعاون مصر مع دول مثل ألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية، التي تمتلك خبرات طويلة فى تصنيع مشتقات البلازما، بهدف بناء نظام وطني متكامل ومستدام. ويُعد المشروع خطوة طموحة تضع مصر فى موقع الريادة فى إفريقيا والشرق الأوسط. يُعد مشروع تصنيع مشتقات البلازما فى مصر نموذجًا رائدًا للتكامل بين الصحة والاقتصاد والتكنولوجيا، ويُعبِّر عن تحول استراتيجي فى السياسة الصحية الوطنية. بل إن المشروع يعد بمثابة نقطة تحول فى تاريخ الصناعة الدوائية المصرية، ويوفر الأمن العلاجي لملايين المواطنين. تكمن أهمية تصنيع مشتقات البلازما فى مصر فى عدة جوانب صحية، اقتصادية، واستراتيجية. وبنظرة إلى حجم التصنيع لمشتقات البلازما حول العالم ندرك أهمية قيام الدولة المصرية بهذا المشروع وفى هذا التوقيت. فأمريكا الشمالية تقوم بالسيطرة على 60% من حجم الإنتاج العالمي من مشتقات البلازما، تقوم الولايات المتحدة بنصيب الأسد فى ذلك، حيث تمتلك 800 مركز لتجميع البلازما يُضاف إليه 200 مركز سنويًا، مما يجعل تلك الصناعة تضخ مليارات الدولارات سنويًا فى الاقتصاد الأمريكي. وفى المرتبة الثانية تأتي أوروبا بنسبة تتراوح بين 20 إلى 25% من إنتاج العالم. ولا تحقق أوروبا الاكتفاء الذاتي من الأدوية المشتقة من البلازما سوى فى كل من ألمانيا وفرنسا وسويسرا والنمسا. أما قارة آسيا فيأتي نصيبها من الإنتاج متواضعًا وهو 10%، أما أمريكا اللاتينية فحجم الإنتاج لديها 3% فى الوقت الذي تأتي فيه القارة الإفريقية بنسبة صفر إنتاج، نظرًا لأنها لا تمتلك مصنعًا ضخمًا لإنتاج مشتقات البلازما وهو ما قامت به مصر وستدخل بافتتاح هذا المصنع القارة الإفريقية إلى مصاف القارات المنتجة لمشتقات البلازما، لتحقق نقلة نوعية فى جودة الرعاية الصحية وتنضم مصر بهذا المصنع لتصبح الدولة السادسة على مستوى العالم تحقق الاكتفاء الذاتي من أدوية مشتقات البلازما بعد كل من الولايات المتحدةوألمانيا وفرنسا وسويسرا والنمسا. إن هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا قيام الدولة المصرية بخطوات غير مسبوقة فى القطاع الصحي كمبادرة القضاء على فيروس سي، والتي كان لها الدور الأكبر فى جعل المستثمرين فى القطاع الدوائي يحرصون على العمل فى مصر. (2) شهدت جودة الرعاية الصحية فى مصر خلال السنوات العشر الأخيرة تطورات متسارعة على مستويات متعددة، بدءًا من إطلاق مشروعات قومية ضخمة، وصولاً إلى تبني استراتيجيات تستهدف تحقيق التغطية الصحية الشاملة وتحسين جودة الخدمات الصحية. فى عام 2018، أطلقت الحكومة المصرية نظام التأمين الصحي الشامل الجديد، الذي يمثل تحولًا جذريًا فى فلسفة تقديم الخدمات الصحية فى البلاد، ويهدف هذا النظام إلى تقديم خدمات صحية عالية الجودة لجميع المواطنين دون تمييز، مقابل مساهمات رمزية للفئات القادرة، وتغطية كاملة للفئات غير القادرة من خلال تمويل الدولة. وبحسب الهيئة العامة للرعاية الصحية، فقد تم تطبيق النظام فى 6 محافظات حتى نهاية عام 2024، وهي: بورسعيد، الأقصر، الإسماعيلية، جنوبسيناء، السويس، وأسوان، بإجمالي عدد مستفيدين تجاوز 5 ملايين مواطن، وتخطط الحكومة لتغطية باقي المحافظات تدريجيًا حتى عام 2032. وكان للمبادرات الصحية الرئاسية دور كبير خلال العقد الأخير، مثل مبادرة "100 مليون صحة" التي انطلقت فى 2018 واستهدفت فحص وعلاج المصابين بفيروس سي والأمراض غير السارية مثل الضغط والسكري. وأسفرت المبادرة عن فحص أكثر من 70 مليون مواطن، وتقديم العلاج المجاني لأكثر من 2.2 مليون مصاب بفيروس "سي"، ما ساهم فى خفض نسبة انتشار المرض إلى أقل من 1% فى 2022، بحسب بيانات وزارة الصحة. كذلك أُطلقت مبادرات للكشف المبكر عن سرطان الثدي، وأمراض الأنيميا والتقزم بين طلاب المدارس، وصحة المرأة الحامل، بالإضافة إلى حملات تطعيم موسعة للأطفال، ومكافحة الأمراض المُعدية مثل شلل الأطفال. كما شهدت مصر زيادة كبيرة فى عدد المستشفيات والمراكز الطبية، حيث ارتفع عدد المستشفيات العامة والخاصة من نحو 1,800 مستشفى فى 2015 إلى أكثر من 2,400 مستشفى فى 2023. كما تم رفع عدد أسِرّة الرعاية المركزة بنسبة 50% خلال نفس الفترة، لمواجهة الضغط الناتج عن تزايد السكان وتفشي جائحة كورونا. واكبت الحكومة التغيرات الرقمية بإطلاق تطبيقات مثل "صحة مصر"، و"العيادة الذكية"، وأنظمة حجز إلكتروني للكشف فى المستشفيات العامة، كما تم إنشاء قواعد بيانات صحية موحَّدة للمواطنين ضمن إطار التحول الرقمي للدولة، مما ساهم فى تسريع تقديم الخدمة وتحسين كفاءتها. أظهرت جائحة كورونا فى 2020 نقاط القوة والضعف فى النظام الصحي المصري، فرغم الضغط الهائل على المستشفيات، تمكنت الدولة من إنشاء 23 مستشفى عزل وتجهيز أكثر من 6,000 سرير عناية مركزة بحلول منتصف 2021، كما وفرت حملات التطعيم أكثر من 90 مليون جرعة لقاح للمواطنين والمقيمين. وتسعى الدولة إلى تحسين جودة التعليم الطبي، وتوسيع برامج تدريب الكوادر، وتحفيز الأطباء للبقاء داخل البلاد من خلال تحسين الرواتب وظروف العمل. كما تركز الخطط المستقبلية على دعم الشراكة مع القطاع الخاص، وتوسيع التغطية التأمينية، وتعزيز صناعة الأدوية والمستلزمات الطبية محليًا. على مدار السنوات العشر الأخيرة، أحرزت مصر تقدمًا ملحوظًا فى تحسين جودة الرعاية الصحية من خلال سياسات إصلاحية ومبادرات.