خلال كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي فى الاحتفال بيوم الشهيد، وجّه التحية للشعب المصرى على الدور الذى قام به فى معركة تعد واحدة من أخطر المعارك فى التاريخ الحديث، والتى تستهدف الجبهات الداخلية للدول لكى تتمكن قوى الشر من تدمير القوة العسكرية لتلك الدول. فالدول القوية، تستمد قوتها من جبهتها الداخلية المرتكزة عليها، فى ظل حروب غير تقليدية لها تكلفة باهظة، تدفعها الشعوب حال الدخول فى مواجهة مسلحة. ولأن قوة الجبهة الداخلية كان لها الدور الأكبر فى حسم نتيجة المعارك، كان المتغير الأحدث هو استهداف تلك الجبهة وتفكيكها من أجل الوصول إلى الهدف (تدمير الدول). لأن الجبهة الداخلية هى إحدى الركائز المهمة للحفاظ على الدولة لما لها من دور رئيسى فى دعم القوات المسلحة للقيام بدورها فى المعركة وتحقيق النصر، لذا كانت الجبهة الداخلية هدفًا استراتيجيًا لقوى الشر. فليس من المعقول أن تكون الجبهة الداخلية مفككة ويستطيع الجيش أن يحقق نصرًا فى معارك المواجهة المباشرة مع العدو. ما حدث فى الحرب العالمية الثانية يعد دليلاً على الدور المهم للجبهة الداخلية فى تحقيق النصر. لقد استطاعت دول الحلفاء الانتصار على دول المحور بعد أن نجحت الجبهة الداخلية من خلال التصنيع العسكرى داخل الاتحاد السوفيتى فى تصنيع 57 ألف دبابة من طرازT 34 خلال سنوات الحرب. لقد كانت التجارب السابقة خير دليل على أن دور الجبهة الداخلية هو العامل المحورى فى مواجهة المعارك العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. الأمر الذى جعل الشعوب (الجبهة الداخلية للدولة) هدفًا أساسيًا لواضعى خطط الحرب النفسية التى باتت أقوى أسلحة المعارك الحديثة. ولأن الدولة المصرية تمتلك إرثًا ضخمًا من التجارب جعلها قادرة على مواجهة كل التحديات مستفيدة من دروس التاريخ، فدائمًا نجد الشعب المصرى موحدًا خلف قيادته السياسية للحفاظ على دولته الوطنية. كان هذا هو أحد الأسباب الرئيسية المهمة للانتصار فى المعارك ومنها ما حدث فى 1956، عندما اصطف الشعب خلف القيادة وقواته المسلحة فى مواجهة العدوان الثلاثي، وسطر أبناء مدينة بورسعيد الباسلة ملحمة بطولية تدرس فى المقاومة الشعبية. كما حدث أيضًا بعد 5 يونيو 1967 عندما خرج الشعب إلى الشارع فى 9 من يونيو 1967 يطالب الرئيس جمال عبد الناصر باستكمال مسيرة الوطن لاسترداد الأرض والكرامة، ولولا الجبهة الداخلية القوية التى اصطفت خلف القوات المسلحة فى تلك المرحلة الصعبة وعلى مدى أكثر من 6 سنوات، لما استطاعت مصر أن تحقق النصر فى أكتوبر 1973 فى ظل دعم غربى وأمريكى ضخم للعدو الإسرائيلي، وتضييق شديد على الدولة المصرية، وحديث ممجوج من قبل الإدارة الأمريكية فى ذلك الوقت عن أن إسرائيل أصبحت تمتلك الأرض وليس هناك من شيء يستوجب تغيير المشهد، أى أن احتلال إسرائيل لسيناء بات أمرًا مسلمًا به وعلى القيادة المصرية فى ذلك الوقت أن تدرك ذلك. لكن مصر وقواتها المسلحة وقيادتها الوطنية لم تقبل هذا، مرتكزة على جبهة داخلية قوية رغم محاولات تقديم المشهد على أنه غير موحد أو غير مبالٍ وهو فى الحقيقة كان أحد أدوات خطة الخداع الاستراتيجى فى حرب أكتوبر 1973. فكان اصطفاف المصريين خلف قواتهم المسلحة مصدر القوة لتحقيق النصر الذى غيّر العديد من النظريات العسكرية. علينا أن نراجع العديد من المشاهد لندرك أهمية الاصطفاف الشعبى وهو ما كان له دور رئيسى فى المعركة. فما قام به عدد من الفنانين وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم من جمع للتبرعات للمجهود الحربي، وطوابير المصريين المصطفين للتبرع للمجهود الحربى، وساعات العمل الإضافية التى قدمها الصناع فى مدينة المحلة الكبرى قلعة الصناعة المصرية فى ذلك الوقت والتى تعود الآن بقوة. تلك كانت مشاهد معبّرة عن إيمان الشعب بضرورة الاصطفاف خلف قيادته وعدم الالتفات لمحاولات النيل من تلك الصخرة الصلبة التى تقف حجر عثرة دائمًا أمام محاولات النيل من وحدة الشعب. فالجبهة الداخلية عنصر حاسم فى أى حرب، حيث تلعب دورًا كبيرًا فى دعم الجهود العسكرية وتأثيرها على نتائج الصراع. وتوفر الدعم النفسى والمعنوى للقوات المسلحة، كما تعمل على تعزيز الوحدة الوطنية من خلال تعزيز الشعور بالانتماء والتضامن بين المواطنين. كما أنها المسئولة عن توفير الإمدادات الضرورية مثل الغذاء، والملابس، والعتاد. وتساهم فى إنتاج السلاح والمعدات العسكرية، من خلال التصنيع العسكري، إضافة إلى دورها فى التشجيع على التطوع والانخراط فى القوات المسلحة، وتنظيمها لحملات جمع التبرعات والموارد لدعم الحرب. فالجبهة الداخلية ليست مجرد خلفية للحرب، بل هى عنصر فعّال ومؤثر فى سير العمليات العسكرية ونتائجها، كما أن توازن الدعم بين الجبهة الداخلية والخارجية يمكن أن يكون له تأثير كبير على نجاح أو فشل أى عملية عسكرية، أو مواجهة تهديد من التهديدات أو تحدٍ من التحديات. إن محاولات استهداف الجبهة الداخلية حددت لها قوى الشر عدة مسارات، وهو ما يجب الانتباه إليه بقوة، فالمعركة لا تزال متواصلة فى ظل عمليات تنفيذ لمخطط تفكيك الدول فى عدد من دول الإقليم. فالشرق الأوسط الجديد بات واقعًا فى العديد من المناطق وتجرى عملية تنفيذه بدقة، وإن كانت حدوده لم تنفذ على الأرض ويتم الإقرار بها بعد، لكن مساره يسير بخط واضحة.. الأمر الذى يتطلب من الجميع الانتباه وإدراك أن أهم أسلحة الدفاع فى مواجهة ذلك هو الوعى والاصطفاف الوطنى وعدم السماح بالنيل من وحدة الشعوب. أعود إلى المسارات التى حددتها قوى الشر للنيل من الجبهة الداخلية للدول وهي: أولاً: الحرب النفسية من خلال نشر الشائعات باستخدام وسائل الإعلام لزرع الشكوك وزعزعة الثقة بين المواطنين والحكومة. بالإضافة إلى الترويج للانقسامات واستغلال الخلافات السياسية والاجتماعية لتعزيز الانقسامات الداخلية. ثانيًا: العمليات الاستخباراتية والتى تستهدف جمع المعلومات باستخدام الشبكات الاستخباراتية للتعرف على نقاط الضعف فى الجبهة الداخلية، وكذا عملية الدفع بالجواسيس على مسرح العمليات المستهدف خصوصًا فى فترة الاضطرابات وعدم الاستقرار داخل الدول، وهى الفترة الخصبة لدى قوى الشر للدفع بأكبر عدد من عناصرها الجاسوسية لقراءة المشهد من على أرض الواقع، ولنتذكر قضية الجاسوس الإسرائيلى "إيلان جرابيل" الذى دخل خلال أحداث يناير2011 فى صورة مراسل لصحيفة أجنبية إلى ميدان التحرير وبيقظة الصقور المصرية تم القبض عليه. ثالثًا: العمليات التخريبية، وهو أحد مسارات ضرب الجبهة الداخلية وأيضًا يعتمد على أن تكون الدولة فى مرحلة سيولة وانفلات أمنى حيث يستهدف تخريب البنية الأساسية الحيوية مثل محطات الكهرباء، والمياه، والاتصالات، وهو ما قامت به عناصر قوى الشر خلال الفترة من 2011 وحتى 2013 من تدمير وتفجير للمحولات والأكشاك وأبراج نقل الكهرباء. كما يستهدف هذا المسار القيام بالعمليات الإرهابية وتنفيذ هجمات تستهدف المدنيين لإثارة الفوضى والخوف. رابعًا: الحرب الاقتصادية ويأتى هذا المسار إما من خلال فرض عقوبات على الدولة المستهدفة لتعطيل الاقتصاد وزعزعة استقرار المجتمع، أو ما حدث مع مصر من خلال ضرب مصادر العملة الأجنبية مما يُحدث أزمة تؤثر بشكل كبير على المواطن فى ظل الفجوة الكبيرة بين حجم الواردات والصادرات. وكذا استهداف سلاسل الإمداد لقطع الإمدادات الغذائية والدوائية لتعزيز الضغوط على الجبهة الداخلية. وهو ما فطنت إليه جيدًا القيادة المصرية بقراءة المشهد بشكل استشرافى جعل الدولة تقوم خلال السنوات الأولى منذ 2014 وحتى 2018 بإنشاء المخازن الاستراتيجية وإنشاء المشروع القومى للصوامع، مما ساهم فى توفير السلع الاستراتيجية فى ظل الأزمة العالمية التى وقعت نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية أو جائحة كورونا. إن اصطفاف الجبهة الداخلية يعد عنصرًا حاسمًا فى مواجهة التحديات، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية، يتطلب ذلك تضافر الجهود بين الحكومة والمواطنين، وتعزيز روح الوحدة والتضامن، من خلال تعزيز الجبهة الداخلية، يمكن للدول أن تبنى مجتمعًا قويًا قادرًا على مواجهة أى تحدٍ، مما يساهم فى تحقيق الأمن والاستقرار. لقد نجح الشعب المصرى فى مواجهة التحديات بالتفافه حول الدولة الوطنية وقيادته، وهو ما يدل على ما يمتلكه من وعى وإدراك لما يجرى من حوله وهو أحد أهم وأقوى أسلحة المواجهة خلال المرحلة الحالية، وتستوجب المرحلة القادمة مزيدًا من الوعى فى ظل استهداف متواصل للدولة المصرية لإدراك قوى الشر أنها ستظل العقبة أمام تحويل المخطط إلى واقع ملموس. لقد وجّه الرئيس التحية للشعب المصرى عدة مرات على ما لديه من وعى بحجم التحديات التى تواجهها الدولة، كما أرسل رسالة طمأنة للمصريين على دولتهم بأنها ستظل قوية آمنة مستقرة لن يستطيع أحد أن ينال من أمنها أو استقرارها أو المساس بمقدراتها وترابها الوطنى طالما تمتلك جيشًا وطنيًا قادرًا على حماية أمنها القومى وشعب عظيم. لقد أكد الرئيس السيسي خلال حفل إفطار الأكاديمية العسكرية أن قلق المصريين أمر جيد، لكن طالما أن الشعب متماسك فإن أى تحدٍ يمكننا تجاوزه. لقد عملت الدولة المصرية خلال السنوات الماضية على منظومة بناء الإنسان، وكان هذا أحد أهدافها الاستراتيجية ومن بين مسارات تلك المنظومة كان العمل على البناء المعرفى للإنسان المصري. من أجل خلق كوادر قادرة على بناء مستقبل وطنها بما تمتلكه من علوم ومهارات مختلفة، وخلق شخصية متكاملة قادرة على إدارة أمور عملها بشكل علمى محترف.