فى صباح يوم الأربعاء الماضى ومع بداية إشراقات شمسه على أراضى الجنوب اللبنانى، ظهر فى الأفق طابور سيارات طويل يغطيه آلاف البشر بأجسادهم وأشيائهم فى طريق "العودة إلى الجنوب"، طريق العودة إلى ديارهم التى تركوها كارهين، نازحين، مجبرين جراء القصف الإسرائيلى الوحشى لمنازلهم وبيوتهم ومساجدهم وحتى خيامهم. .. عادوا دون أى التفات إلى تحذيرات جيش الاحتلال الذى أراد أن يعطل ويؤجل هذه العودة رغم إقرار الهدنة.. تدفقت مئات السيارات التى تقل نازحين فروا من الجنوب فى طريقهم مرة أخرى إليه وليس فى ذهنهم شىء سوى حال المنازل ومصير أشيائهم التى تركوها خلفهم منذ أن بدأ القصف فى 23 سبتمبر وبعده العملية البرية فى 30 سبتمبر عادوا بخيال شارد يطارده سؤال مرتعد: إلى متى ستظل هذه الهدنة صامدة.. وهل ستخترقها إسرائيل بحججها الواهية.. أم أنها ستستمر مثل الهدنة التى أبرمت فى 2006 وظلت مستمرة حتى قرابة العشرين عامًا. حزب الله من جانبه وافق على سحب قواته شمال نهر الليطانى على بُعد 40 كيلومتر من الحدود اللبنانية الإسرائيلية وهى أقصى نقطة كما يسمونها، وهذه المنطقة فى هدنة 2006 استطاع الحزب أن يبنى أسفلها شبكة أنفاق أذهلت وأرعبت إسرائيل عندما اكتشفت بعضا من تفاصيلها فى المواجهة الأخيرة والتى كانت سببًا كبيرًا فى إقبال دولة الاحتلال على إبرام الهدنة مع الحزب. فبحسب قول القناة الإسرائيلية تم قتل 124 إسرائيليًا، بينهم 79 جندى، وصافرات الإنذار دوت فى دولة الاحتلال – بحسب القناة – 22 ألفا و712 مرة، منها 16 ألفا و198 مرة بسبب القصف الصاروخى و6517 بسبب الطائرات المسيرة التى وصلت كما رأينا إلى منزل نتنياهو شخصيا وقلب تل أبيب من مبان مخابراتية. هذا بالإضافة إلى ما قالته صحيفة "يديعوت أحرونوت" وفقًا لبيانات ضريبة لأملاك بأن هناك فى دولة الاحتلال 9 آلاف مبنى و7 آلاف مركبة تم تدميرها فى الشمال، واضطرت حكومة الاحتلال إلى دفع 14 مليون شيكل أى ما يعادل 38.4 مليون دولار تعويضات لأصحاب هذه المبانى والسيارات. ولم يكن ذلك فقط هو الدافع نحو موافقة إسرائيل على الهدنة مع حزب الله، بل أن هناك أشياء أخرى ربما تتسق مع معطيات الواقع والظرف الراهن، فنحن مقبلون على شتاء قارس لن يستطيع فيه جنود الاحتلال مواجهة عناصر حزب الله فى تلك المنطقة ذات التضاريس والمناخ الصعب والتى يحفظها حزب الله عن ظهر قلب، كما أن فترة البطة العرجاء أوشكت على الانتهاء، وترامب الرئيس الأمريكى الجديد كان قد أعلن فى جولاته الانتخابية أنه يريد إنهاء الصراع فى هذا الجزء من المنطقة. نتمنى أن تستمر الهدنة فى لبنان فترة طويلة كالتى سبقتها ونتمنى أن يقوم الجيش اللبنانى بالانتشار فى الجنوب وأداء دوره مما يحفظ أمن وسلامة الأشقاء اللبنانيون، وأتمنى أن يعبر لبنان من كبوته التى طالت وأن ينجح فى اختيار رئيس حتى يعود الهدوء والحال كما كان فى لبنان البلد الشقيق. وأتمنى أن تتحقق هدنة على الجانب الآخر فى غزة، فهناك شتاء صعب على الأبواب وحالة الأشقاء فى القطاع تدمى القلوب مع استمرار تعنت جيش الاحتلال وإصراره على منع دخول المساعدات، فهناك عشرات الأطنان من مواد الإغاثة الشتوية تقف عند الحدود لا تستطيع المرور بسبب التعنت الإسرائيلى. نحن بحاجة إلى تحقيق "الهدنة المفقودة" فى غزة مثلما حدثت فى لبنان، بل أن حاجتنا إليها ربما تكون أكثر فى غزة. إن العالم كله مطالب بدعم الجهود المبذولة من مصر لإقرار الهدنة، وحماس وإسرائيل مطالبون بضرورة دعم هذه الجهود بشكل أكثر إيجابية وبشكل أكثر إنسانية، فالغزاوية يحتاجون الآن كثير من الإنسانية قليل من السياسة.