لا بد من الاعتراف، رغم كل المشاق والمتاعب التي يواجهها المشتغل بعملية النشر وصناعة المحتوى بأن هناك بالتأكيد مفاجآت سارة تحملها له هذه المهنة رغم كل شيء! فضلًا على الاتصال المباشر بموضوعاتٍ وكتب ومؤلفات ونهرٍ جارٍ لا ينقطع من المعرفة فأنت أيضًا بإزاء نهرٍ جارٍ من الخبرات الإنسانية والمعرفية والعقلية المتجسدة في أرقى العقول التي تقرأ لها أو تتواصل معها بشكلٍ مباشر في واحدة من أخص تجارب الاتصال الإنساني وأثراها معرفة وفكرًا. إيهاب الملاح لا بد من الاعتراف بأن خبرة النشر، التى قدر لى ممارستها منذ ما يزيد على العشرين سنة؛ قارئا للنصوص ومحررا لها ثم عضوا ومحكما فى لجان القراءة العليا للنشر، فرئيسًا لها ووصولًا إلى تقلد مهام مستشار النشر الثقافى فالمشرف العام على النشر لمؤسسات ثقافية مصرية وعربية كبرى وعريقة، كل ذلك أتاح لى على المستوى الإنسانى أن أحظى بمعرفة وصحبة مبدعينا ومفكرينا ومترجمينا الكبار، فى مصر وخارجها، ولعل هذه الخبرة هى أثمن وأجل ما حظيت به وحصلته فى حياتى خلال العقدين الأخيرين (2004-2024). وما كان ليخطر لى أن أواجه بشكل مباشر ورائع ثمرة من ثمرات أستاذ قدير صاحب تاريخ طويل ومشوار معرفى يندر أن يتحقق لأحد. وأنا هنا أتحدث عن الأستاذ الدكتور مراد وهبة أستاذ الأساتذة والغنى عن التعريف وهو أحد قامات الدرس الفلسفى والفكر المعاصر فى مصر والعالم كله. الدكتور مراد تجاوز الخامسة والتسعين، مدَّ الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية، وأدام علمه ومعرفته، وقد تحرجت كثيرًا جدًا فى طلب لقائه أو الاتصال به حتى لا أزعجه ولا أشكل أى عبء على راحته أو أقتحم عليه مساحته الخاصة التى يديرها باقتدار وإنسانية ابنه الأستاذ الدكتور مجدى وهبة، وابنته الدكتورة منى وهبة. لكن ماذا أفعل وأنا أطمح إلى إعادة نشر كتابه الذى لا أنساه «قصة الفلسفة»، الذى صدر للمرة الأولى عن سلسلة (اقرأ) بدار المعارف عام 1968، وقد قرأته قبل دخولى الجامعة فى أواخر تسعينيات القرن الماضي.. إعادة نشر هذا الكتاب، وما يماثله قيمة وعلمًا ومعرفة ورأيا ومنهجا، انشغال أساسى من انشغالاتى وأحلامى منذ عشرين عامًا أو ما يزيد. وها هى الفرصة قد سنحت من خلال إعادة نشر (روائع اقرأ)، التى حققت أصداء مذهلة منذ الإعلان عن تدشينها.. وقد صدر منها بالفعل عشرة كتب وفى الطريق إلى القارئ العزيز خمسة عشر كتابا آخر.. فكيف أصل إلى الدكتور مراد وهبة وأستأذنه فى ذلك؟ أروى هذه القصة فقط لكى أؤكد أن أى جهد مخلص وحقيقى فى نشر روائع الإنتاج الفكرى والثقافى "المصري" والعربى يحظى باحترام أصحاب القيمة ويجعلهم يؤيدون ويدعمون هذا الجهد بكل وسيلة ممكنة وبكل ما يستطيعون من مساندة ودعم. حينما تواصلت مع الدكتورة منى مراد وهبة أخبرتنى بتهذيب شديد وأدب جم أن أى أمور تتعلق بكتب والدها ونشرها، وما يتصل بذلك من تفاصيل وإجراءات هى من اختصاص أخيها الأستاذ الدكتور مجدى وهبة. وقد تواصلت معه واستأذنته فى إعادة نشر الكتاب، ضمن سلسلة (روائع اقرأ). بأدب بالغ أخبرنى الدكتور مجدى أنه سيعود إلى والده الدكتور مراد فى هذا الأمر، فهو صاحب القرار قبولًا أو رفضًا. وإن كان سألنى عن بعض التفاصيل المتعلقة بحقوق الطبعة أو ما شابه. وأنا لا أملك أى أفق مادى يكافئ قيمة الكتاب وصاحبه، فهو من هو وقدره معلوم، وفوق أى تقدير أو مكافأة! لا أنكر أننى قد أحبطت قليلًا لعلمى بأحقية واستحقاق أستاذنا الجليل، بل كل صاحب قيمة، بما يليق به وبجهده وإنجازه.. ولكن ماذا أفعل.. وما باليد حيلة! مر أسبوع أو عشرة أيام وأنا محرج من الاتصال مرة ثانية وقلت فى سرى "معلش.. إن كان فاتنا هذا الكتاب فلن يفوتنا غيره للدكتور مراد.. وكل شيء بأوان".. إلى أن فوجئت باتصال تليفونى من الدكتور مجدى ابن الدكتور مراد يخبرنى فيه بما أفرحنى وأثلج صدري، ومثل فى مجمله مفاجأة رائعة بكل المقاييس! أخبرنى الدكتور مجدى بموافقة والده الدكتور مراد على إعادة نشر الكتاب، متنازلًا عن أى حق مادى له عن هذه الطبعة، بل وزيادة فى تقديره للمشروع (روائع اقرأ) وللقائمين عليه، ولشخصى الضعيف، فإنه مشكورًا قد كتب بخط يده مقدمة جديدة خصيصًا لهذه الطبعة عن دار المعارف (مرفق صورتها)، يروى فيها قصته هو شخصيًّا مع كتابه «قصة الفلسفة» الذى صدر عن دار المعارف قبل ما يزيد على 55 سنة! فماذا أهدانا أيضا الأستاذ الجليل الدكتور مراد وهبة فى مقدمته التاريخية تلك للطبعة السادسة من كتابه «قصة الفلسفة»؟ الإجابة يحملها النص الذى كتبه الدكتور مراد وهبة، وسأورده كاملا دون أى تدخل أو اختصار فهو من وجهة نظرى وثيقة وشهادة للزمن وللقراء وللمهتمين بتاريخ النشر والثقافة والحركة العلمية والفكرية فى مصر! لن أقدم أى تحليل أو قراءة للنص الآن.. فقط سأورد المقدمة كما هي، ثم أقدِّم تعريفًا موجزًا ومبسطًا بالكتاب.. وسيكون لنا وقفة طويلة ومتأنية (تاليًا) مع ما كتبه الدكتور مراد وهبة، ومع مجمل أعماله الفلسفية والفكرية والتنويرية.. ثم إذا اتسع مجال القول فيمكن سرد قصتى أنا شخصيًّا مع إنتاج الدكتور مراد وهبة، منذ قرأت له كتابه «جرثومة التخلف» الذى صدر عن مشروع مكتبة الأسرة عام 1998، ثم كتابه الرائع الذى لا أنساه «ملاك الحقيقة المطلقة»، الذى صدر عن مكتبة الأسرة أيضًا عام 2000، وضم مقالات ودراسات وفصولًا أقل ما توصف به أنها محفزة للعقل ومنشطة للحس النقدى والعقلاني، وترسيخ الوعى بنسبية الفكر البشري، وتعدديته وتباينه، ما ظل فى دائرة البشرى والوعى به على أنه فكر بشرى وليس فكرًا مقدسًا! لنقرأ الآن قصة هذا الكتاب كما رواها مؤلف الكتاب الدكتور مراد وهبة.. … بدايتها فى عام 1967، عندما كنت مستشارًا ل "دار المعارف" بقرارٍ من مديرها الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله، الذى أصبح وزير الدولة للتخطيط فى عهد الرئيس السادات، فقررتُ تأليف كتابٍ لسلسلة "اقرأ"، التى تصدر عن الدار ويُشرف عليها الشاعر السورى الكلاسيكى عادل الغضبان. الفكرة المحورية فيه مستنبطة من رسالتى الماجستير والدكتوراه، إذ هى تدور حول مفهوم «المذهب»، من حيث هو إما "مغلق" وإما "مفتوح". وكانت هذه الثنائية تنطوى على تناقضٍ يكمن فى أن المذهب بحكم طبيعته "مغلق" فكيف يكون مفتوحًا؟! وانتهيتُ من ذلك التناقض إلى نتيجتين: النتيجة الأولى؛ أن تاريخ الفلسفة مكونٌ من أربعة فصول، وكل عصرٍ فيه ينطوى على مرحلتين؛ مرحلة غلق، ومرحلة فتح. وأما النتيجة الثانية؛ فهى أن المذهب المفتوح يستلزم علاقة جدلية بين المطلق والنسبي، تتحرك على هيئة دائرية لولبية، كان قد أشار إليها "إنجلز"، وتبناها أستاذى الدكتور يوسف مراد، بسبب تأثره بعالِم النفس الفرنسى "هنرى فالون"، الذى كان يحتل مركزًا مرموقًا فى الحزب الشيوعى الفرنسي. ومن هنا جاء تأليفى لذلك الكتاب. وكانت الغاية من تأليفه بيان قصة العلاقة الجدلية بين المطلق والنسبى استنادًا إلى تاريخ الفلسفة، وهى قصةٌ غريبة لأن بدايتها معروفة، أما نهايتها فمجهولة ما دامت العلاقة دائرة بين المطلق والنسبي. ولهذا تساءلتُ فى نهاية القصة: هل من نهاية لهذا الدوران؟ وهنا أود الإشارة إلى حادثةٍ ذات مغزى ثقافى. صدور ذلك الكتاب لم يكن بالأمر الميسور، إذ مضى عام بعد تسليم المخطوط لعادل الغضبان دون أن يُطبع، فاستفسرتُ منه عن سبب التأخير فجاء جوابه مقتضبًا ومفاجئًا. قال: هذا هو مخطوطك. أنصحك بتعديله لكى تؤثر السلامة! فقلت له: هات المخطوط لأنشره كما هو فى دارٍ أخرى، لأنى لستُ معتادًا على التعديل بعد الانتهاء من التأليف. ثم أخبرتُ الدكتور إسماعيل صبرى بما حدث، فانفعل قائلًا: إما النشر، وإما الاستقالة. وفى اليوم التالي، صدر القرار بطبع الكتاب. وبعد ذلك تطورت فكرة العلاقة الجدلية بين المطلق والنسبى إلى العلاقة غير الجدلية بين الأصولية والعلمانية من حيث تعريفى لكل منهما: "الأصولية" هى التفكير فى النسبى بما هو مطلق، وليس بما هو نسبي. أما "العلمانية"؛ فهى التفكير فى النسبى بما هو نسبي، ليس بما هو مطلق ثم تطورت هذه العلاقة غير الجدلية بين الأصولية والعلمانية إلى فكرة صراع المطلقات، التى هى فى أصلها "صراع الأصوليات" فألفتُ عام 1999 كتابًا عنوانه «الأصولية والعلمانية». هذا موجز لتطور «قصة الفلسفة» بعد حذف المعاناة التى واجهتها، التى دلَّت على مصداقية عبارة الشاعر السورى الكلاسيكى عادل الغضبان: هذا هو مخطوطك. أنصحك بتعديله كى تؤثر السلامة ومع ذلك فهذه هى الطبعة السادسة. (النص الكامل لمقدمة الطبعة السادسة من كتاب (قصة الفلسفة) للدكتور مراد وهبة.. يصدر قريبًا فى سلسلة "روائع اقرأ" عن دار المعارف 2024) وكتاب «قصة الفلسفة» الذى صدر تحت رقم (305) من سلسلة (اقرأ)، قدَّم عرضًا رائعًا لتاريخ الفلسفة منذ أقدم عصورها وحتى العصر الحديث، ولكل من خلال منظور واضح ومحدد، ومن خلال تناول إشكالية "المطلق والنسبي" فى تاريخ الفلسفة، والعلاقة بينهما فى كل مرحلة. كما اعتمد على طريقة السؤال والجواب بشكل شائق ومثير وممتع فى عرضه للموضوع الفلسفي. ببساطة فإن "الفلسفة" فى أصلها اليونانى تعنى "حب الحكمة"، والفيلسوف إذن ليس حكيما بل هو مجرد محب للحكمة وعاشق لها، ولأن الله وحده هو الحكيم. و"الله" فى الفكر الفلسفى هو "مطلق" بمعنى أنه موجود قائم بذاته، وليس قائما بموجود آخر، فهو مكتف بذاته مستغن بذاته.. وإذا كان لكل علم قصته مع البشرية منذ فجرها، فإن فى هذا الكتاب الذى لا يتجاوز حجمه حدود الكف، يحكى لنا الدكتور مراد وهبة "قصة الفلسفة" أى قصة البحث عن "المطلق" وقصة الصلة بين "المطلق" و"النسبي"، أو قصة العلاقة بين "البسيط" و"المركب". ومن هنا يعود مؤلف الكتاب، الدكتور مراد وهبة، إلى الوراء كثيرًا إلى أن يبلغ القرن السابع قبل الميلاد، فى نقطة على ظهر الكون العتيق تسمى جزيرة "أيونية" فى بلاد اليونان، حيث ولدت الفلسفة عندما أطل على عقل "طاليس" سؤال عن "المطلق". هذه القصة التى هى بمثابة رحلة للإنسان عبر القرون، رحلة قوامها الأسئلة ومحاولة التوصل إلى إجاباتٍ لها، أسئلة يطرحها الفلاسفة، ويجيبون عنها ليأتى من بعدهم يصيغ أسئلة أخرى من ذات الإجابات، ويضع لها بدورها أجوبة.. وتستمر الرحلة عبر العصر اليونانى وصولًا إلى العصر الحديث، والحروب والأديان وغير ذلك فى تشكيلها بشكل غير بسيط.. استطاع المؤلف فى هذا الكتيب أن يصيغ كتابه كما لو كان يغازل الأفكار وينسجها فصنع عملًا واضحًا ومتماسكًا.. لم ينس فيه المرور على مكان دون آخر، ولم يقفز من فوق أحدها فيبتر خيطا امتد من أول صفحة فلم ينته إلا بانتهاء صفحات الكتاب، وقد كانت آخرها عن "سارتر" الذى توقفت عنده الصفحات، ولم يتوقف ديالكتيك مستمر من الأسئلة والأجوبة الحائرة بين "المطلق" و"النسبي"..