شغلتنى قصة البقرة المبروكة.. ربما أكثر من اللازم!.. قصة «المبروكة» للذين لا يعرفونها وقعت فى قرية كفر سعد التابعة لمركز الرحمانية بمحافظة البحيرة.. حيث زعم أحد أبناء القرية أنه يمتلك بقرة صغيرة السن تدر لبنا له قدرة على شفاء الأمراض المستعصية.. فى البداية تزاحم أبناء القرية للحصول على لبن المبروكة.. ثم بدأ أبناء القرى المجاورة يتوافدون على القرية من أجل اللبن المعجزة.. ثم اتسعت الدائرة أكثر وأكثر فشملت المدن والمحافظات المجاورة. ثم بدأت المفاجآت تتوالى ! انتبهت وزارة الصحة للقصة وخطورتها وإلى ما يمكن أن تحدثه من نتائج وتداعيات فقامت بتشكيل لجنة من الطب البيطرى ومديرية الصحة والأوقاف لذبح البقرة المبروكة لمواجهة تلك الظواهر المروجة للخرافات. ومن جانبها قامت اللجنة بفحص البقرة ووضع تقرير كامل عن حالتها.. وتبين من التقرير أن البقرة تعانى من خلل هرمونى.. كما أوضح التقرير أن هذا الخلل يؤدى عادة بالنسبة للأبقار صغيرة السن إلى خلل فى الغدة النخامية يؤدى بدوره إلى إدرار لبن غير صالح للاستهلاك الآدمى.. وقد تبين بعد قيام مديرية الصحة بالبحيرة بتحليل لبن البقرة المبروكة أنه ليس لبنا طبيعيا وإنما هو إفرازات هرمونية! وهكذا أثبتت اللجنة المُكلّفة بفحص حالة البقرة المبروكة أن لبنها لا يشفى من الأمراض المستعصية ولا غيرها من الأمراض.. بل إنه يصيب من يشربه بأضرار صحية! وليس مهما بعد ذلك أن نعرف إن كانت اللجنة المُشكّلة قد قامت بذبح البقرة المبروكة وتسليم لحومها إلى صاحبها.. أم أن صاحبها تخلص منها ببيعها بإحدى أسواق الماشية بكفر الشيخ بمبلغ 10 آلاف جنيه.. كما نشرت إحدى الصحف!.. المهم أن المسئولين واجهوا المشكلة ووضعوا حدًا للقصة التى تحولت إلى خرافة.. كان من الممكن أن تمتد آثارها إلى أبعد مما نتصور. ووجدت نفسى مشغولا بالقصة وتفاصيلها وبالبحث عن إجابة لسؤال منطقى: لماذا تنتشر قصص الخرافات فى مجتمعنا بهذا الشكل؟! وذكرتنى قصة البقرة المبروكة بالوصف الذى أطلقه كاتبنا الراحل العظيم الدكتور حسين مؤنس على الأبقار التى رآها فى مزارع سويسرا.. قال عنها الدكتور حسين مؤنس إن البقرة منها تبدو وكأنها مواطن صالح!.. مواطن يعمل بمنتهى الهمة والنشاط لإنتاج أجمل أنواع الألبان وأوفرها. لماذا تتحول الأبقال إلى مواطنين صالحين فى بلد مثل سويسرا وتتحول الأبقار فى مجتمعاتنا إلى أبقار مبروكة تدر لبنا فاسدا.. نتصور نحن أنه يشفى من الأمراض؟! وأدركت أن السبب هو أننا نتخلى بسرعة عن عقولنا ونستبدلها بالخرافات!.. وأن الحل الوحيد هو أن نذبح كل الأبقار من هذا النوع.. الأبقار المبروكة! ليس مقصودًا الأبقار فى حد ذاتها وإنما المقصود أن نذبح الخرافات التى تلغى عقولنا وتؤخرنا عن السير فى الاتجاه الصحيح. بهذا المنطق نحتاج لذبح أبقار كثيرة! *** التعليم على سبيل المثال.. قضية فى منتهى الأهمية.. وكلنا يعرف أن مستقبل بلدنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا مرتبط بنجاح سياسة التعليم فى مصر. لكننا فى الحقيقة أسرى لأبقار مبروكة كثيرة تحتل مساحة كبيرة من سياسة التعليم فى مصر وتسيطر عليها. على سبيل المثال مناهجنا التعليمية.. وعلينا أن نسأل أنفسنا: ما الذى أوصلتنا إليه مناهجنا الدراسية.. وما الذى وصلت إليه دول مثل الصين وكوريا وماليزيا بمناهجها الدراسية؟. لاحظ أننا عشنا وهذه الدول ظروفًا متشابهة لكن هذه الدول تحولت إلى دول عملاقة اقتصاديا بينما بقينا نحن واقفين فى مكاننا. السبب الوحيد لهذا الفارق الكبير هو المناهج الدراسية. روى لى الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الأسبق قصة يحلو لى دائمًا استعادتها واستعادة تفاصيلها. قال لى الدكتور حسين كامل بهاء الدين إن الأمريكان والروس دخلوا معًا عصر الفضاء فى توقيت واحد.. لكن الروس تفوقوا فى سنوات قليلة ونجحوا فى أن يسبقوا الأمريكان فى الوصول إلى الفضاء. وهكذا كان يورى جاجارين الروسى أول رائد فضاء تعرفه البشرية يصل إلى الفضاء الخارجى ويسبق الدنيا كلها. المسألة لم تمر مرار الكرام على الأمريكان وإنما راح علماؤهم يبحثون ويدرسون الأسباب الحقيقية التى أدت إلى تفوق الروس وفوزهم فى السباق إلى الفضاء وتخلف الأمريكان فى السباق وتأخرهم. واكتشف العلماء أن السبب الحقيقى لتفوق الروس وتخلفهم هو مناهج الدراسة الابتدائية!.. اكتشفوا أن مناهج الدراسة الابتدائية الروسية خاصة بمواد العلوم والرياضيات أكثر تطورًا من المناهج الأمريكية وإنها سبب تفوق العلماء الروس على العلماء الأمريكان. ولم يتأخر العلماء الأمريكيون لحظة واحدة وإنما بسرعة راحوا يطورون مناهج المرحلة الابتدائية ويصححون مسارها.. بعد أن تأكد لهم أن هذه المناهج هى المسئولة عن عقلية العلماء فيما بعد. وفى غضون سنوات ليست بكثيرة استطاعت أمريكا أن تكسب سباق الفضاء وتتفوق على روسيا.. لأنها طورت مناهج الدراسة الابتدائية فأنتجت عقولا قادرة على التفوق!. وعندنا فى مصر مشكلة اسمها المناهج الدراسية.. ونحن نتحدث كثيرًا عن تطوير هذه المناهج وتحديثها.. وأحيانًا نتكلم عن محاكاة المناهج الدراسية فى البلدان التى بدأت معنا وتفوقت علينا.. لكننا فى النهاية نكتشف أن مناهجنا الدراسية لم تتطور ولم تتغير. والسبب من وجهة نظرى أن عقولنا تستسلم دائمًا لنظرية الأبقار المبروكة.. ولهذا السبب أطالب بذبح كل هذه الأبقار المبروكة! *** المسأله لم تعد تحتمل التأخير.. إما أن نتخلص من العقلية التى تسارع بتصديق الخرافات وإما أن نغرق فى بحور التخلف. ومصر لم يعد فى إمكانها أن تتحمل التخلف بعد ذلك!