أعتقد أن قصة البقرة وبنى إسرائيل لم تكن سوى آية أخرى يريها الله سبحانه وتعالى لهؤلاء القوم أصحاب اللجاجة فى الكلام والمراوغة فى الأفعال، كما أنها تأتى ضمن آياته الكبرى التى وعد الله نبيه موسى بأن يكشفها له دعما وتأييدا فى تبليغ رسالته لبنى إسرائيل ولفرعون وقومه. لقد تعددت وتوالت الآيات الربانية إلى موسى الذى اصطنعه الله لنفسه واصطفاه على الناس منذ البداية.. حيث أوحى لأمه لكى ينجيه وهو طفل صغير من فرعون وعمله (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ).. بل حدد الله مصير موسى وما سوف يحدث له مسبقا.. حيث لأمه فى آية أخرى (أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)، وقد ألقى الله عليه محبته ورعاه فى مراحل نشأته وحياته إلى أن كلفه بالرسالة إلى بنى إسرائيل. حيث أراه من بعض آياته الكبرى فقد أمره الله تعالى عندما كان بالوادى المقدس بسيناء أن يلقى عصاه التى يتوكأ عليها والتى له فيها مأرب أخرى.. والتى تحولت إلى حية تسعى ثم وضع يده فى جيبه فيخرجها بيضاء من غير سوء، وتلك كانت آية أخرى، ثم ضربه للبحر بعصاه فينشق وينجو، بينما يغرق فيه فرعون وقومه. الذى أنجاه الله ببدنه ليكون آية للناس من بعد ذلك.. ورغم تلك الآيات إلا أن بنى إسرائيل لم يؤمنوا إيمانا كاملا بموسى وبرسالته مع أنه أنجاهم من فرعون الذى يتّم أولادهم وسبا نساءهم وأذاقهم من العذاب، فدائما ما كان يرددن فى وجه لقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.. يا سبحان الله! أما قصة بقرة بنى إسرائيل فقد بدأت عندما كان من بينهم رجل ثرى.. عَمّر طويلا فى الدنيا، ولم يكن له أبناء يرثونه، إنما كان له ابن أخ يستعجل وفاته بفارغ الصبر حتى يحصل على تلك الثروة الطائلة. فلما طال عليه موته.. قتله فى ظلام الليل وحمل جثته والناس نيام ووضعها فى مدخل قرية مجاورة لهم، وفى الصباح وجد أهل القرية الجثة.. فتحروا عن صاحبها وعرفوا من يكون. هذا.. بينما تجمع أهل قرية القتيل يقودهم ابن شقيقه مطالبين بالثأر والقصاص، وتوجه الطرفان إلى نبى الله موسى عليه السلام ليحتكموا إليه.. وسألوه أن يدعوا الله ليبين لهم القاتل الحقيقى لإنهاء هذا النزاع المرشح للتصاعد. وهنا بدأت اللجاجة والمراوغة من بنى إسرائيل، فبعد أن دعى موسى ربه وأوحى إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة، دهشوا من الطلب وخاطبوه بسفاهة (أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً).. أى كأنك تسخر منا.. نحن نسألك معرفة القاتل.. وأنت تطلب منا ذبح بقرة، فيستعيذ موسى بربه أن يكون كذلك.. فما قال لهم إلا ما أمره الله به ولحكمة يعلمها سبحانه وتعالى (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ). وهنا يدّعون أنهم صدقوه.. ويطلبون منه أن يسأل ربه عن مواصفاتها (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ).. وكأن رب موسى ليس ربهم، ومع ذلك.. يسايرهم نبى الله ويسأل ربه ويعود ليخبرهم بأنها وسطا أى ليست عجوزا ولا بكرا.. ويؤكد عليهم أن هذا أمر من الله.. (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ). ولكنهم يستمرون فى المجادلة ويعودون للسؤال مرة أخرى (مَا لَوْنُهَا)؟.. فيجيبهم نبى الله مبلغا رسالة ربه بأنها صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، أى أنها شديدة الصفار وليست بها ألوان أخرى، ولكنهم بعد أن سألوا عن السن واللون يعودون للسؤال مرة ثالثة عن الصفة والحجم بحجة أن البقر تشابه عليهم.. مع الوعد أنهم سيفعلون (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)، فصبر عليهم موسى.. وأبلغهم أنها غير مروضة وسليمة لا شىء فيها.. أى لم تستخدم من قبل فى حرث الأرض أو سقاية الزرع (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا).. فكان جوابهم (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ).. وكأن كل ما قاله لهم موسى من قبل غير ذلك- استغفر الله- أو كأنه كان يتخذهم سخريا كما ادعوا! وبعد كل ذلك تؤكد الآيات أنهم (َذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون).. أى أنهم ذبحوها مضطرين.. فلم يعد لديهم حجة للمجادلة أو المراوغة وعدم طاعة الأمر الربانى، وهم لا يعلمون أن كل ذلك لحكمة يعلمها الله.. أى ليكشف عن آية أخرى لنبيه موسى الذين يتلكأون فى تنفيذ كلامه، فقد كانت الحكمة من ذبح استخدام لحمها فى إعادة إحياء القتيل أمام أعينهم ليرشد عن القاتل (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا).. أى أمرهم موسى بأن يضربوا القتيل ببعض لحم البقرة.. فأشار إلى ابن أخيه بأنه قاتله.. يا سبحان الله.. ألا تتقون.. هكذا يريكم الله كيف يحى الموتى.. وهى إحدى آياته الكبرى الذى وعد به موسى من قبل.. لعلكم تتركوا اللجاجة والمراوغة وتعودوا إلى صوابكم (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). كما شدد الله على بنى إسرائيل فى مواصفات البقرة بعد أن راوغوا وتمنعوا عن التنفيذ ليجبرهم ويرهم أنه إذا كانوا سيمكروا فالله خير الماكرين، وإذا كانوا مؤمنين حقا فما عليهم إلا تنفيذ ما يأمرون به، فالله هو المحيط بكل شىء وهو الغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. نعم.. فالله يعلم السر وما يخفى.. وهو العالم بعباده ولذلك بعد أن انتهت قصة البقرة بذبحها وكشف القاتل.. واصلت الآيات وصفهم بما هم عليه فعلا (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).. بل إن هناك من الحجارة ما يتفجر منه الماء، كما حدث مع موسى عندما أمره ربه أن أضرب بعصاك الحجر فتفجرت منه اثنتا عشرة عينا، ومن الحجارة أيضا ما يخرج منها الأنهار.. بل منها ما يهبط من خشية الله.. فالله أعلم بكم..وليس غافلا عما تعلمون (وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).. ??? ولكن لماذا أمر الله نبيه أن يبلغ قومه بأن يذبحوا بقرة وليس شيئا آخر.. كبش مثلا مثلما حدث مع سيدنا إسماعيل؟.. يقول المفسرون إن بنى إسرائيل لم يكن يعرفون من الدواب غير البقر بخلاف أهل البادية الذين كانوا يستخدمون الأغنام والماشية، كما أنهم سبق واتخذوا عجلا إله لهم صنعه لهم السامرى من الذهب الذى سرقوه من المصريين.. أما السبب الثالث فتقول بعض الكتب إن رجل من بنى إسرائيل استودع لطفله عجلا صغيرا فى البارية وعندما كبر أخبرته أمه بذلك.. فذهب إلى هناك ودعا ربه أن يردها إليه..وعندما شاهدها بنى إسرائيل هى التى تتوفر بها مواصفات الذبح.. فسوموها عليه حتى أعطاها وزنها ذهبا. وسبحانه الله الذى أعطى كل شيئا خلقا ثم هدى.. والله أعلم.