عودة الهدوء إلى مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند الأمريكية، فإن الغالبية العظمى من الأمريكيين يتوقعون عودة الاضطرابات ذات الدوافع العرقية خلال الفترة القادمة، فى حين اختلفت الآراء حول العوامل الرئيسية التى تسببت فى تفجير أعمال العنف والتخريب والنهب خلال احتجاجات السود على عنصرية ووحشية الشرطة الأمريكية . وأظهر استطلاع للرأى أجرته شبكة «إن بى سى نيوز» الأمريكية بالتعاون مع صحيفة «وول ستريت جورنال» فى الفترة من 28-30 إبريل الماضى وشمل 508 أمريكيين، من بينهم 111 من أصل أفريقى، أن 96% من الأمريكيين يتوقعون أن الاضطرابات العنصرية على غرار ما حدث فى بالتيمور الأسبوع قبل الماضى، ومن قبلها فى فيرجسون، ستستمر فى جميع أنحاء البلاد خلال هذا الصيف. وكانت المفاجأة أن التفسيرات حول أسباب أعمال العنف والشغب التى وقعت فى بالتيمور على خلفية الاحتجاجات على مقتل الشاب الأسود فريدى جراى (25 عاما) فى 19 إبريل الماضى بعد أسبوع من إصابته خلال اعتقاله من قبل الشرطة، أظهرت بشكل كبير الانقسامات العرقية داخل المجتمع الأمريكى، حيث قال 60 % من الأمريكيين من أصل أفريقى إن أعمال العنف تعكس الإحباط الذى طال أمده من سوء معاملة الشرطة للسود فى المدينة، فى حين قال 58% من البيض أن السود استخدموا موت الشاب الأفريقى على أيدى الشرطة كذريعة للسلب والنهب. هذا الاختلاف فى الرأى بين البيض والسود فى أمريكا سيترتب عليه بالفعل، بحسب مراقبين، استمرار الاضطرابات العرقية فى أمريكا، لأن السود سيستمرون فى الرد بغضب على أى حادث يشتبه فى وقوعه كنتيجة لتعامل الشرطة الأمريكية بوحشية مع الأمريكيين من أصل أفريقى، فى حين أن غالبية كبيرة من البيض ممن يثقون فى الشرطة المحلية سيظلون ينظرون إلى الغضب الناتج على أنه نتيجة لعدم احترام السود للسلطات وهو ما سيؤدى إلى الدوران فى حلقة مفرغة وعدم مواجهة العوامل الأساسية التى تساهم فى محنة الأقليات. وتعد وفاة الشاب فريدى جراى الحلقة الأحدث فى مسلسل مقتل شباب سود عزل خلال مواجهات مع الشرطة خلال السنوات الماضية والذى ازدادت وتيرته خلال الأشهر الأخيرة، فى الوقت الذى يتم فيه إعفاء عناصر الشرطة المتورطة فى هذه الجرائم من الملاحقة القضائية. وأدى الغضب من مقتل جراى إلى اندلاع احتجاجات واسعة شابتها أعمال عنف ونهب وتخريب بمدينة بالتيمور التى يسكنها 625 ألف نسمة معظمهم من السود، مما اضطر رئيسة بلدية المدينة إلى فرض حظر التجوال ليلا واستدعاء قوات من الحرس الوطنى والجيش للمرة الأولى منذ عام 1968 عندما نشبت أعمال عنف بعد اغتيال مارتن لوثر كينج، فى حين انتقلت الاحتجاجات من بالتيمور إلى غيرها من المدن الأمريكية، وردد المتظاهرون نداء «أرواح السود مهمة» و«لا عدالة.. لا سلام» تكرارا لشعارات موجات الاحتجاجات السابقة على عنصرية الشرطة والمستمرة منذ مقتل الشاب الأسود مايكل براون فى أغسطس الماضى على يد شرطى أبيض بولاية ميسورى. ولم تهدأ موجة الاحتجاجات الأخيرة إلا بعد أن وجهت المدعية العامة لولاية ماريلاند مارلين موسبى تهما جنائية تتراوح بين «الاعتداء» إلى «القتل من الدرجة الثانية» لستة ضباط شرطة لهم علاقة بموت جراى. وكشفت المدعية العامة وهى امرأة سوداء فى الخامسة والثلاثين من العمر، أن جراى تعرض إلى إصابة بالغة فى عنقه لدى نقله مكبلا اليدين والقدمين ومنبطحا على الأرض داخل حافلة للشرطة أقلته إلى سجن بالمدينة وقالت إن اعتقاله لم يكن بصورة قانونية وإنه لم يكن يحمل سكينا كما أدعى أفراد الشرطة. وانتقدت موسبى الشرطة لتجاهلها مرارا مناشدات جراى بالحصول على مساعدة طبية. من جانبه، أقر الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى تصريحات صحفية بوجود «أزمة تتكشف ببطء ومستمرة منذ فترة طويلة» فى تعامل الشرطة مع المجتمع وخصوصا الأمريكيين من ذوى الأصول الأفريقية، بطرق تثير تساؤلات مقلقة. وفى كلية ليمان كوليدج فى برونكس، حيث أعلن عن تأسيس منظمة غير ربحية منبثقة عن مبادرة للبيت الأبيض لزيادة فرص الشباب من الأقليات، قال أوباما إن تزايد احتجاجات السود فى الأونة الأخيرة يرجع إلى شعورهم بالإحباط والشعور بأن القوانين لا تطبق بشكل متساو دائما فى البلاد، مضيفا أن الأشخاص من أصول أفريقية ولاتينية يتعرضون لمعاملة مختلفة من قبل السلطات الرسمية فى حالات التوقيف والاعتقال والمعاقبة فى أماكن كثيرة بالبلاد. ولا يقتصر التمييز ضد السود فى المجتمع الأمريكى على المعاملات من قبل الشرطة فحسب، ولكنه يسود العديد من جوانب الحياة هناك.. هذا ما أكدته معظم الصحف العالمية والأمريكية، وفى هذا الإطار قالت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن العنصرية لا تزال تشكل مشكلة كبيرة فى أمريكا، مشكلة تسود العديد من جوانب الحياة، إلا أن الأمريكيين البيض لا يدركون هذه الحقيقة حيث يظهر العديد من الدراسات أنهم غالبا ما يكونون بمعزل عن الواقع العنصرى فى البلد، حيث يعيشون داخل مجتمعات وشبكات اجتماعية متجانسة. وعرضت الصحيفة بعض الحقائق التى تؤكد استمرار العنصرية ضد السود فى أمريكا، من بينها أنه عند إرسال طلبات تقديم لشغل وظيفة ما تكون احتمالية القبول للأسماء المعروفة بتسميتها بين الأمريكيين من أصول أفريقية أقل بنسبة 50% عن تلك للأسماء المعروفة بين البيض بالرغم من تطابق المؤهلات بين السير الذاتية للبيض والسود، وذلك وفقا لدراسة أجرتها جامعة شيكاغو فى عام 2002، فى حين أظهرت دراسة أجرتها كلية الحقوق بجامعة ييل أن السود يدفعون 700 دولار زيادة على البيض عند شراء سيارة حيث إن التجار يعرضون أسعارا أقل على البيض عن تلك التى يعرضونها على السود والنساء. كما أظهرت دراسات عديدة وسجلات من مكتب التحقيقات الفيدرالى كشفتها صحيفة «يو اس ايه توداى» الأمريكية العام الماضى أن نسبة سحب رخصة القيادة بين السود تبلغ ضعف النسبة بين البيض وأن هناك فجوة عنصرية كبيرة فى عمليات التوقيف والاعتقالات من قبل الشرطة. فرغم أن معدلات استخدام الماريجوانا متساوية بين السود والبيض، فإن نسبة الاعتقال بين السود تبلغ ثلاثة أضعاف تلك بين البيض. ويبلغ معدل السجن بين السود نحو ستة أضعاف ذلك بين السود. ويوجد أيضا تمييز فى مجال الإسكان حيث أظهرت دراسة أجرتها الإدارة الاتحادية للإسكان والتطوير الحضرى فى عام 2012 أن السود عندما يتصلون بسماسرة العقارات للاستفسار عن المنازل المعروضة للبيع يعرض عليهم منازل أقل بنسبة 17,75 عن البيض. كما لفتت الصحف إلى أن الاحتجاجات التى تفجرت فى بالتيمور ليس سببها فقط عنصرية الشرطة ووحشيتها ضد السود ولكن أيضا الظلم الاجتماعى الذى يعانى منه السود فى أمريكا حيث تعانى الكثير من المناطق التى تسكنها أغلبية سوداء من الفقر والإهمال وسوء خدمات التعليم، وبالتالى انخفاض الفرص فى الحصول على وظائف مرتفعة الرواتب وهو ما يزيد من ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع معدل الجريمة وتجارة المخدرات، مما يخلق نوعًا من عدم الثقة بين الشرطة بوجه عام وسكان الأحياء الفقيرة، فالشرطة ترى فى تلك الأحياء منبعا للجريمة بينما يشعر سكان الضواحى الفقيرة بأنهم مهمشون ومستهدفون ويعاملون بطريقة غير عادلة.