داعش تنظيم أبلغ ما يمكن أن يطلق عليه بأنه تنظيم «المتوحشين» فى السلفية الجهادية، وهذه الصفة ليست نقيصة أو معيبة فى منظوره، فهو يعتمد وبصورة رئيسية على استراتيجية ممارسة فقه التوحش والرعب والذبح ونحر الرءوس بشكل ممنهج، و نشر صور ومشاهد جرائمه على الملأ والتفاخر بها. وتستند هذه الاستراتيجية على مجموعة من الأفكار والتحولات والتفسيرات الغير متفق عليها بين فقهاء السنة الثقاة، وتمثل جميعها خروجًا عن قيم الإسلام ومقاصده التى كرمت الإنسان حيًا وميتًا ورفعت من قدره، وحالت دون ايذائه حتى لو كان مختلفًا فى العقيدة. ووفقًا لمتابعة تطور عمل أعضاء هذا التنظيم، بأن هذا التوحش ليس مجرد عمل ظرفى اقتضته ساحة القتال، إنما هى استراتيجية ونهج قد ترسخ منذ عهد المؤسس الأول أبو مصعب الزرقاوى، مع بدء الاحتلال الأمريكى للعراق 2003، إذ كانت عمليات الذبح والنحر سياسة ثابتة ونهجاً مميزاً لتنظيمه، حتى أصبح من أشهر ألقاب الزرقاوى فى الفضاء الجهادى العالمى لقب «أمير الذباحين». الزرقاوى لم يأتِ بتلك الاستراتيجية والنهج من فراغ، بل ثمة مرجعية كان لها الفضل والأثر المباشر فى بناء العقيدة القتالية وتحديد الخيارات الفقهية المتعلقة بالذبح والنحر وقطع الرءوس وعمليات الاختطاف والاغتيال ، وتكتيكات العنف والرعب عند أبى مصعب الزرقاوى وأتباعه، وصولاً إلى خلافة البغدادى،التى حافظت على نهجه وطورته، تلك المرجعية الفقهية كانت تتمثل فى شخصية معروفة فى الأوساط الجهادية باسم أبوعبد الله المهاجر المصرى مؤلف كتاب «فقه الدماء»، الذى كان أحد أهم شيوخ أبى مصعب الزرقاوى. وعن أبو عبد الله المهاجر فهو الشيخ عبد الرحمن العلى، مصرى الجنسية، تلقى علومه الإسلامية فى باكستان، وتخرّج فى الجامعة الإسلامية فى إسلام آباد، ورابط فى أفغانستان حيث أنشأ مركزاً علمياً دعوياً فى معسكر خلدن، ودرّس فى مركز تعليم اللغة العربية فى قندهار، ثم فى معسكرات المجاهدين فى كابل، وكان ممن درس وتلقى عنه فى تلك الفترة أبو مصعب الزرقاوى، وكان مرشّحاً لتولّى مسئولية اللجنة العلمية والشرعيّة فى تنظيم القاعدة، وكان معتقلا بإيران، وقد أفرج عنه ويشاع أنه عاد إلى مصر بعد أشهر من ثورة يناير. وأشار مفتى تنظيم القاعدة السابق الليبى عطية الله إلى أن أبا عبد الله المهاجر «كان له تأثير فى الشيخ أبى مصعب»، أما كتابه «مسائل من فقه الجهاد» والمعروف باسم «فقه الدماء» ويقع فى (600) صفحة، فهو يعتبر الأساس الفقهى المعتمد، ودليل العمل والنهج للزرقاوى وجماعته ومن سار على خطاه، وهو أحد أهم الكتب التى تفسّر المنطلقات الفقهية والدينية لتنظيم «داعش». قطع الرءوس وباستعراض أبواب كتاب «فقه الدماء» ، نجد أن تطبيقاته واضحة من الناحية الميدانية، فهذا الكتاب قد تضمن بحث (20) مسألة، وكانت أولى تلك المسائل التى تطرق إليها بعنوان: «دار الحرب التى اعتبر فيها أن الدول كافة فى العالم وفى مقدمتها العربية والإسلامية قد دخلت فى حد الردة والكفر، ويجب قتالها». كما خصص المؤلف مبحثاً كاملاً فى كتابه بعنوان: «مشروعية قطع رءوس الكفار المحاربين»، أكد فيه عدم وجود خلاف فى مشروعية قطع رءوس الكفار وحزها، سواء أكانوا أحياء أم أمواتاً، وأن الله لم يقل اقتلوا الكفار فقط، لأن فى عبارة ضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس فى لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حزّ العنق. وخلص المؤلف إلى أن «قطع الرءوس أمر مقصود بل محبوب لله ورسوله، رغم أنوف الكارهين، وأن صفة القتل بقطع الرأس وحزّه صفة مشروعة درج عليها الأنبياء والرسل، وهى من الشرع المشترك بينهم». وذهب المؤلف إلى أبعد من ذلك ببحث جواز نقل وحمل رءوس الكفار من بلد إلى آخر، إن كان فى ذلك تبكيت وإغاظة للكفار والمشركين، إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالعمليات الانتحارية، وعمليات الاختطاف والاغتيال، وتكتيكات العنف والرعب، وقتل وقتال الكفار بكل وسيلة تحقق المقصود. أسلحة نووية ودعا المؤلف إلى أهمية امتلاك أقوى الأسلحة وأشدها فتكاً، والسعى وبكل قوة ممكنة فى امتلاك أسلحة الدمار الشامل من أسلحة نووية وكيماوية وجرثومية، وأن الضرورة فى أعلى درجاتها وليس مجرد الحاجة هو ما يدعو إلى ذلك. ولا غرابة فى أن تنظيم«داعش» يبدو جاداً فى السعى إلى ترجمة ذلك واقعياً بالحصول على قنابل بيولوجية أو أسلحة كيماوية، من خلال دعوتهم ومطالبتهم فى مبادلة أسراهم من الأمريكيين ب«عافية الصديقى»، وهى أمريكية من أصول باكستانية ،انضمت إلى تنظيم القاعدة، و حصلت على شهادة البكالوريوس فى علم الأحياء، والدكتوراة فى علم الأعصاب، وتم القبض عليها عام 2008، فى أفغانستان وفى حوزتها وثائق حول كيفية صنع أسلحة كيماوية، واللافت للنظر أن «القاعدة» لم يطالب بإطلاق سراحها بينما يلح تنظيم« البغدادي»على مبادلتها مع أسراه الأمريكيين. إذ طالب ب«عافية» ثمناً لحياة الصحفى الأمريكى «جيمس فولى»، وبعد ذلك اقترح التنظيم إطلاق سراح «عافية» فى مقابل الإفراج عن «ستيفن سوتلوف »، ثم «ديفيد هينز»، وكلاهما رهينتان أُعدما بعد الصحفى جيمس فولي. معالم فى الطريق كما يعتمد أبناء التيار السلفى الجهادى، على عدة كتب مهمة مثل كتاب «معالم فى الطريق» لسيد قطب، الذى يعد أول منظرى فكر السلفية الجهادية لما قدمه من صياغة فى حقبة الستينيات وطرحه لفكرتى الجاهلية والحاكمية والسلاح للتغيير،وكتاب «الفريضة الغائبة»، لمحمد عبد السلام فرج ،و يعتبر الأساس الفكرى الأول لتنظيم الجهاد. إضافة إلى كتاب «ملة إبراهيم»، و«الكواشف الخفية» لأبى محمد المقدسى، الأردنى الأصل، الذى يعد المنظر الأول للسلفية الجهادية على مستوى العالم، وأول من استخدم مصطلح (السلفية الجهادية)، وكتاب «الجهاد والاجتهاد: تأملات فى المنهج»، لأبى قتادة الفلسطينى، وهو من أشهر المنظرين لأطروحات وخطابات السلفية الجهادية. وكذلك كتاب «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، لأبى مصعب السورى، الذى استأثرت تنظيراته الجهادية المبتكرة باهتمام جميع مراكز الأبحاث والدراسات المعنية بالظاهرة فى العالم كله بالنظر لما تنطوى عليه أفكاره، ويتجلى ذلك واضحاً فى كتابه الضخم السابق، الذى جاء فى أكثر من (1600) صفحة. و يعتبر كتاب «العمدة فى إعداد العدة» لسيد إمام مرجعًا جهاديًا فى مخيمات تدريب قاعدة الجهاد فى أفغانستان،ولسيد إمام كتاب آخر اسمه «الإرهاب من الإسلام ومن أنكر ذلك فقد كفر»، ويُعتير سيد إمام من أكثر المؤثرين فى الحركة الإسلامية، وليس هذا التأثير من الناحية العسكرية ولكن من الناحية الشرعية والأدبية والفكرية. وينضم إلى قافلة التنظير الجهادى كتب زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهرى، «الولاء والبراء.. عقيدة منقولة وواقع مفقود» ،و«فرسان تحت راية النبى». ومقالات عمر عبد الرحمن، أبرز قيادات الجماعة الإسلامية، و منها «قولوا للظالم لا،و الشريعة الإسلامية شريعة كاملة»، وأيضاً كتاب «آيات الرحمن فى جهاد الأفغان»، لزعيم الأفغان العرب عبد الله عزام. أمة الخلافة ومؤلف كتاب «إدارة التوحش» يعتقد أبو بكر ناجى أن الجهاد من أهم أبواب هداية الخلق، وأنه «شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان»، وأن «إراقة دماء أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم من أوجب الواجبات»، ويقول: «نحن الآن فى أوضاع شبيهة بأوضاع حوادث الردة أو بداية الجهاد فنحتاج إلى الإثخان ونحتاج لأعمال مثل ما تم تجاه بنى قريظة» (قتْل الرجال وسَبْى الأطفال والنساء وأخذ الأموال)، فلابد من «اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب». سيطرة تنظيم «داعش» على الأرض، لا يمكن فهمها إلا فى إطار التغيرات فى المنطقة منذ الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى الثورات الشعبية. والمرجع المهم فى رسم هذه الاستراتيجية هو أبو بكر ناجى الذى أطلق مصطلح «إدارة التوحش» على المرحلة التى تنهار فيها الدول ولا يتم التمكن من السيطرة عليها من قِبَل قوى أخرى، وهنا تتقدم «السلفية الجهادية» بمشروعها لإدارة حاجيات الناس وحفظ الأمن والقضاء بين الناس وتأمين الحدود وغير ذلك. تأتى هذه الاستراتيجية المقترحة فى سياق أوسع،إذ يشخِّص «ناجي» المشكلة بدءًا من سقوط الخلافة وإقرار اتفاقية «سايكس بيكو» ونشوء النظام العالمى بعد الحرب العالمية الثانية، ومع استتباب أنظمة فرَضت قيمًا مغايرة لقيم المجتمعات خالفت العقيدة التى تحكمها، وضيَّعت المقدَّرات ونشرت المظالم، وأحكم النظام الجاهلى السيطرة على العالم بأنظمة الجنسية والورق النقدى والحدود المسيَّجة. ولذلك فالدولة الإسلامية – بحسبه- ستقوم على أنقاض الأممالمتحدة لتُخرج الأمة من حالة الهوان وتقود البشرية للهداية، والمشروع الوحيد المؤهل لذلك هو مشروع «السلفية الجهادية»، لأنه الوحيد الذى وضع مشروعًا شاملاً للسنن الكونية والسنن الشرعية وهو منهج رباني. ويوجه «ناجي» انتقاداته لباقى المشاريع الأربعة، وهي: سلفية الصحوة (سلمان العودة وسفر الحوالي) التى تتطابق مع الإخوان، وتيار الإخوان و(مشروعهم العفن)، وتيار إخوان الترابى الذى راعى السنن الكونية ولكنه لم يراع السنن الشرعية فجعل الدولة علمانية، وتيار الجهاد الشعبى (حماس وجبهة تحرير مورو) المختَرق من قبل منهج الإخوان. الجهاد العالمي «الحكم بما أنزل الله» هو جوهر البنية الفكرية للجهاد العالمى، وهو فى سبيل ذلك يبنى تصوراته ومشروعية ممارساته على «الشريعة» وهى – عنده – مرادفة للفقه . ولا يمكن تجاهل أن الإخوان المسلمين هم من بدأوا تشكيل المذهبية السياسية للدين حين حاولوا أن يعوضوا غياب الخلافة التى سقطت بمشروع الدولة الإسلامية التى تطبق الشريعة تمهيدًا لاستعادة الخلافة، ثم سعَوا إلى بناء النظام الإسلامى الشامل الذى يَقطع مع الأنظمة السائدة فى مختلف المجالات. إلا أن تلك الأفكار سَرَت وانزلقت إلى مشروع الجهاد العالمى، ولكن بأدوات وأساليب مناقضة لما رجاه الإخوان، وعبر وسيط إخوانى هو سيد قطب الذى طرح أفكار الجاهلية والحاكمية وتكفير المجتمعات، نظرًا لغياب المعنى الحقيقى لشهادة التوحيد التى لا تتضمن توحيد الله فى التشريع الذى أضافه الجهاديون إلى أنواع التوحيد التى قررها ابن تيمية فأصبحت ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد التشريع، وسيدٌ قطب شكَّل مَعينًا لكل الفكر الجهاديّ بدءًا من عبد الله عزام والظواهرى ووصولاً إلى جبهة النصرة وفقهاء تنظيم داعش. وتبدأ منظومة «الحكم بما أنزل الله» الجهادية بمسألة التكفير أولاً، وعنها يتفرع تكفير الحكام الذين يحكمون بالقوانين، وتكفير الراضين بذلك، وتكفير من لم يكفِّر هؤلاء جميعًا، كما أن البلدان التى تُحكم بالقوانين تصبح كلها دار كفر، فيعود الإسلام غريبًا وتعود «حروب الردة» سيرتها الأولى ويجب الجهاد الذى يتحول – معهم – إلى ركن من أركان الإسلام. فى المرحلة الثانية من المنظومة يأتى السلوك الواجب على الطليعة الجهادية المؤمنة، وهو الخروج على الحكام الكفار وقتالهم بغضِّ النظر عن القدرة. وفى المرحلة الثالثة يتم النظر إلى كل أحكام هؤلاء الحكام الكفار على أنها ساقطة وغير معتبَرة شرعًا، فلا تعود تنطبق عليهم أحكام «الإمامة» فى الفقه الإسلامى، فتسقط كل أحكام الذمة ودار الإسلام والمعاهدات والقوانين وكل المنظومة السياسية المعاصرة، وفى المرحلة الرابعة يأتى إقامة الحكم الإسلامى وتطبيق الشريعة ونَصْب الخليفة الشرعى. هذه المنظومة لم تكن لتستقيم على هذه الصورة دون الطعن فى عامة العلماء والمؤسسات ومصادر العلم الإسلامى والعودة المشوهة والانتقائية إلى الكتب، واتخاذ فقهاء مخصوصين من خارج النظام الفقهى، وبما أن المنظومة الفقهية الإسلامية لا تُسعفهم فى هذا البناء تجدهم حريصين على الكتابة فى فقه الجهاد بصورة مختلفة وبطريقة شديدة الانتقائية، حتى جعل أبو عبد الله المهاجر تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر «من المعلوم من الدين بالضرورة»، ومن ثم يكفِّر من يخالفه، فى حين نرى عامة الفقهاء يرون أن هذا التقسيم هو مسألة أمْلَتْها ظروف تاريخية قد تَغَيرت. فى مقابل منظومة الجهاديين هذه تقوم المنظومة الفقهية الإسلامية على أن «الحكم بما أنزل الله» فيه تفصيل وليس حكمًا عامًّا، ولذلك قيل لابن عباس: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قال: «كفره ليس كمن كفر بالله واليوم الآخر»، وعن عطاء بن أبى رباح قال: «كفرٌ دون كفر، وفسقٌ دون فسق، وظلمٌ دون ظلم»، وقال طاووس: «كفرٌ لا يُخرج من الملة »، فالفقه الإسلامى يقرُّ بشرعية الحكام إذا وصلوا إلى الحكم بواحد من ثلاث طرق: الاختيار، أو البيعة، أو التغلب (كإضفاء شرعية على أمر وقَع لا يمكن دفعه، لا كتشريع للقيام بالتغلب)، وأن الحاكم لا يُكفَّر إلا إذا صدر عنه كفرٌ بَوَاحٌ لا يحتمل التأويل، وأما ما يصدر عنه من أحكام فإن وافق الشرع وجب الالتزام به، وإن خالف فلا طاعة له ويُنكَر عليه ذلك التشريع المخالف وفق قواعد الأمر والنهى فى الفقه الإسلامى.