تتجه كافة الآراء المرتبطة بفلسفة الطرق إلى أن الأصل فيها هو تيسير سبل السائرين على الأقدام (المترجلين) لكونهم الغالبية العظمى فى المجتمع لا سيما أن المركبات الخاصة على كثرتها ليست فى متناول الجميع، بل وبعض المواصلات الجماعية ربما بحكم الظروف الاقتصادية للأفراد أو لعدم وصول معظمها للعديد من الأماكن خاصة البعيدة منها. يبد أننا إذا تجاوزنا الموقف التقريرى لوقفة تأملية حيال موقفنا المجتمعى من أرصفة الطريق لأدركنا كيف تعكس بوضوح لا مراء فيه أحوال البشر فى المجتمع - أى مجتمع - بل وقدرته على ضبط إيقاعاته فى شتى مناحى الحياة. ولكون الشارع بعامة يمثل كتاباً مفتوحًا لقراءة المجتمع فأول ما يصدمنا بالطبع مدى الاهتمام بالرصيف من قبل الدولة لكونه المجال الحيوى لحركة الغالبية، وفى هذا الصدد يمكننا بكل قوة أن نؤكد أن الدولة التى لا يعنيها رأى الأغلبية ليس من المفترض أن تهتم بما قد يبدو ترفا لا وقت له. ومن ثم فالحوار السائد هنا و قوامه اللامبالاة ليفسر موقف الناس من الرصيف إما بالتجاهل ليصبح فى الشارع متسعاً للترجل أو بالتعدى الذى يبلغ أحيانًا اعتباره جزءًا من بعض المحلات، ليصل الأمر فى غيبة سطوة المحليات أو بالأحرى غيبوبتها أن يصبح الرصيف كرنفالا فجًا من الألوان ومواد التبليط. وما من شك أن الحديث هنا عما يعكسه هذا الاهتراء من اعتداء على القيم الجمالية والذوق العام يعد عبثا من الأحرى تجاوزه بالصمت. أما ما لا ينبغى تجاهله فهو عدم تأهيل الرصيف من حيث الارتفاع لذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن، وبحكم أن شر البلية ما يضحك فالحجة فى ذلك هو منع السيارات من استخدامه للركن وكأن لسان حال عبقرى التنظيم يؤكد أن الاعتداء مادام حادثا فعلىَّ وعلى أعدائى. والضحية بالطبع قطاع من أبناء هذا الوطن تلزمنا كل دواعى الإنسانية أن نضعه فى اعتبارنا عند أى تخطيط جماعى وما عدا ذلك يمثل حالة من الأنانية المفرطة وتجاوزًا لحق دستورى يلزم علينا تفعيله. والواقع فإن الأمر لا يقتصر فى تأملنا على الانعكاس السياسى أو الالتزام القانونى كضابط موحد للسلوك الذى يختلف فيما بيننا بحكم التكوين الثقافى والتنشئة، بل يتعداه إلى قياس المستوى الاقتصادى والنفسى فى المجتمع بعدما أصبحت الأرصفة ملاذا للعديد من البشر الذين لا مأوى لهم ليفترشوها أمام أعيننا وقد التحفوا بالسماء، وترانا نمر عليهم وكأننا فى مشهد عبثى وليس دليل إدانة لظلم مجتمعى أو ضمور فى الضمير الجمعى الذى لم يعد يهتز لوضع هؤلاء وغيرهم من ذوى الإعاقات العقلية الذين يمثلون قنابل موقوتة فى حقل ألغام تزداد رقعته دونما رد فعل منا مادام أن العقل العام بات مشغولا بالهم الخاص فنسيناهم حتى أنسانا الله أنفسنا. ويحضرنى فى هذا الصدد تحرك أحد ذوى الضمائر الذى هاله أحد هذه المشاهد حيال واحد من قاطنى الأرصفة حيث كان رد فعل الجهة المسئولة ممعنا فى البيروقراطية لا إنسانية فيه ولولا مكانة الرجل وتصعيده للأمر لذهبت جهوده أدراج الرياح. وتسأل فى هذا الصدد عن الجمعيات الأهلية والمؤسسات الرسمية فلا يأتيك سوى رجع الصدى بإجابات تقليدية متهالكة لا غناء فيها، دونما النظر لطرح حلول غير تقليدية أو تبنى وسائل تأهيلية على كافة الأصعدة تجعل من خططها أذرعًا حامية وحانية فى ذات الوقت لتلك الفئات المهمشة. وما من شك أن مقولة ديجول عن القدرة على حكم شعب لديه هذا الكم من أنواع الجبن إنما تنطبق علينا فى ذات السياق، ولكن على شعب لا يستهويه المشى على الرصيف حتى ولو صادف وكان ممهدًا لكونها أزمة سلوك فيما نرى ويأس من الالتزام به بعدما تشابه المشى فيه تعرجًا مع تعرجات حياتنا واللااستقامة فى نواحٍ شتى. ليس ذلك فحسب بل إن مسألة الحس الجمالى المفتقد أمام سيل إعلانات الرصيف وغلبة النزعة المادية على حساب حق المواطن فى المشى الآمن ليعكسا حالة من رسوخ الاختلاط الكمى والكيفى لدى أفراد المجتمع أو بالأحرى اختلاط الحابل بالنابل، ليصبح إعمال القانون أحيانًا حالة مؤقتة تستهدف من القائمين عليها أى شىء إلا هدف إعماله أصلا حيث (التحصيل) هو سيد الموقف!! إذ لو كانت السيادة للقانون لما رأينا انتهاك حرمة الأرصفة حتى ولو كانت أمام المؤسسات الرسمية للدولة بالمقاهى والبضائع المختلفة والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يشكو مطالبًا بحقه المشروع فى الراحة داخل بيته أو بركن سيارته فى المسموح وهلم جرا من أمثلة نلمسها جميعًا وعندما نجأر بالقانون يصبح صوتنا هذيانًا يسلتزم السخرية. ولو علم المنتهكون جرم فعلتهم لأصبحوا من العقوبة والسخرية أحق بها وأهلها. وتخفيفا من حدة النقد فيمكن الإشارة إلى أن الكثير من الأعمال الفنية الشهيرة قد جعلت من الرصيف بطلا أو عنوانًا لها يحضرنى منها مثالا مسرحية (ع الرصيف) الشهيرة فى حين خفت حضوره فيما أعلم عن أمثالنا الشعبية على كثرتها وكذا أغانينا لا سيما الشعبية منها!!. ويبقى أن نقول ختامًا أن وجود الرصيف بالشارع يمثل إحدى المحددات التنظيمية والتى ينبغى أن نسأل أنفسنا حيالها.. إلى أى مدى قد ألزمنا أنفسنا بمحدداتنا الحياتية قيمًا وسلوكًا وأداءً ،حتى نحاسب أنفسنا على أسلوب ارتيادنا لأرصفة الشوارع؟. وبالأحرى متى ألزمنا أنفسنا بقواعد أرصفة حياتنا حتى نستمسك بحقنا فى أرصفة شوارعنا؟ وإذا لم تعرف عزيزى القارئ الإجابة الصحيحة فبرجاء أعد قراءة المقال دونما حاجة للاستعانة بصديق.