جازى الله بعض القادة العرب السابقين والحاليين الذين تتدرعوا بمناصبهم وحراسهم وتركوا أمور البلاد لرب يحميها، فغابت الدولة إلا من وسائل الإعلام.. وعادت القبائل والعشائر للظهور وكأننا فى عصر الجاهلية الأولى، فهى الفاعل حاليا على الأرض سواء فى العراق أو اليمن أو ليبيا، ناهيك عن حرب الطوائف فى سوريا وصراع الأحزاب فى لبنان. فالعالم من حولنا تتوحد دوله الصغيرة والكبيرة أيضا فى تكتلات سياسية واقتصادية حماية لحقوق شعوبها وتحقيقا لمصالحهم، أما نحن العرب فنتشرذم.. ونتفكك إلى دويلات لا تملك من أمرها شيئا وليس لديها ما يسمن من جوع أو يروى من عطش، ومن ثم كانت العودة إلى «حضن» الجماعة الأقرب سواء كانت العشيرة أو الطائفة أو الحزب.. كل ذلك وجامعة «الحكومات» العربية تراقب.. وتشاهد.. وتنتظر حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. وللأسف.. هذا الواقع العربى المؤلم.. ليس وليد اليوم ولكنه نتيجة تراكم لفساد وسوء إدارة لحكامنا العرب الذين استخفوا بشعوبهم فلم يروهم إلا ما يرونه! وقد تصادف وأنا أتابع الغزو الأمريكى للعراق فى التسعينيات من القرن الماضى أن شاهدت على شاشات التليفزيون اجتماع موسعا للرئيس المشنوق صدام حسين مع قادة جيشه.. حيث كان يصعد كل قائد إلى منصة الحديث لا ليعلن عن استعداد قواته المدرعة أو البحرية أو الجوية.. إلخ.. للحرب وصد العدوان الأمريكى، وإنما كان يعلن ويؤكد ولاء قبيلة «كذا» أو عشيرة «كيت» التى ينتمى إليها إلى الرئيس الركن، واستعداداتها للفداء بأرواح أبنائها والمنتسبين لها حفاظا على حياة الرئيس واستمراره فى الحكم. وكنت أندهش مما أسمع.. من قادة أكبر جيش عربى بعد الجيش المصرى.. أين العقيدة العسكرية فى الدفاع عن تراب الوطن من كل اعتداء خارجى؟. وماذا عن الانضباط العسكرى؟.. وأين الاستعدادات والتدريب وتمام الأسلحة والجاهزية لصد العدوان المتوقع.. والذى لم يكن هناك أدنى شك فى حدوثه؟.. كل ذلك لم أره ولم أسمعه من قادة الجيش العراقى وقتها.. ومن ثم حدث الانهيار السريع.. والهرب والاختفاء لكل هؤلاء القادة بمن فيهم الرئيس الركن نفسه، فقد لعبت المخابرات الأمريكية «دورها» المعتاد.. واستخدمت إغراءات الهجرة.. والمال السخى.. وحدث ما حدث! وابتليت العراق باحتلال أمريكى دام سنوات.. قضى على الأخضر واليابس فيها، ثم عاد «الرشد» إلى قبائل وعشائر العراق مرة أخرى.. فحملوا السلاح فى مواجهة العدو المحتل، ودخل تنظيم القاعدة على الخط، فلجأ الاحتلال الأمريكى إلى العشائر مرة أخرى.. وخاصة عشائر الأنبار فشكلوا من أبنائهم «قوات الصحوات» التى تصدت لتنظيم القاعدة فى أرض الرافدين، على وعد من رئيس الوزراء المالكى وهو شيعى المذهب، بإلحاق أبناء هذه القبائل فى القوات العراقية النظامية أو الشرطة أو إدارات الدولة المختلفة.. ولكن لأنهم سنيون فقد خلا بهم ومرت الأيام.. ودارت على العشائر الدوائر.. حيث ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وهو سنى المذهب.. واستطاع فى وقت قليل اجتياح مساحات شاسعة من الأراضى العراقية.. بعد تحالف أو موافقة بعض العشائر السنية فى المنطقة، وبعدها بدأ فى الانتقام من العشائر التى حملت السلاح من قبل فى وجه أعضاء القاعدة ومنهم البونمر والجبور وغيرهم والذين قتل منهم أكثر من 700 شخص حتى الآن.. كل ذلك.. وطائرات التحالف الدولى تسقط على الداعشيين ما يشبه «البمب» بل تسقط أسلحة وذخائر حقيقية- بادعاء الخطأ- فى الأماكن التى يسيطر عليها مسلحو داعش، أما الجيش العراقى.. فينتظر المتطوعون.. بينما الحكومة مازالت تلملم أوراقها.. وتخطط لسبل المواجهة الحاسمة! ومن ثم لم يجد أبناء العشائر فى كل من نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى- 70 عشيرة- سبيلا للدفاع عن أنفسهم سوى تشكيل مجلس العشائر، مطالبين أيضا الحكومة بتسديد «فواتير» تصديهم لتنظيم داعش.. وتحقيق الحكم الذاتى للقبائل السنية أسوة بما تم مع الأقاليم الكردية، كما أنهم يخشون- بعد الانتهاء من داعش- أن يعاود الجيش تصفية مسلحيهم، كما حدث فى ديسمبر 2013. ??? هذا عن العراق.. أما اليمن.. فالأمر لا يختلف كثيرا على الرغم من عدم وجود احتلال أو عدو خارجى، ومن المعروف أن هذا القطر الشقيق هو منبع القبائل العربية.. والتى تحملت عبء الفتوحات الإسلامية، واستوطن الكثير منها كافة البلاد العربية، واليمن الذى كان سعيدا عبارة عن ثلاث قبائل كبرى: حاشد.. والتى يسيطر عليها آل الأحمر وكان من أحد فروعها الرئيس السابق على عبد الله صالح، وهى التى كانت تستولى على المناصب الرئيسية فى الدولة، وهواها إخوانى، ثم بكيل وهى الأكبر عددا، ولكن الأقل نفوذا، وأخيرا مذحج والتى تنتشر فى مناطق الوسط (تعز وأب وغيرهما). وأغلب اليمنيين «زيديون» وهى طائفة شيعية متفتحة.. ولذلك توصف بأنها سنة الشيعة، وهناك الشافعيون.. وهم منغلقون على أنفسهم نسبيا ولذلك يطلق عليها شيعة السنة. وقد حاولت الثورة اليمنية فى عام 1962 القضاء على دور القبائل فى الحياة السياسية، ومن بعدها كان الحزب الاشتراكى فى الجنوب، ولكن بعد الوحدة.. واستقرار الأمر مع الرئيس السابق على عبد الله صالح.. عادت ريما لعادتها القديمة، وظهرت «المحاصصة» والتمثيل النسبى للقبائل اليمنية فى كافة مؤسسات الدولة، فعاد الولاء للعشيرة ثم القبيلة قبل الدولة.. وانعكس الأمر على القوات المسلحة اليمنية التى تحولت إلى «ميليشيات» تابعة للقبائل.. وقيل إن عبد الله الأحمر زعيم قبيلة حاشد كان يسيطر على 20 ألف مسلح، كل ذلك باستثناء الحرس الجمهورى الذى كان هو القوى الضاربة فى اليمن من حيث التسليح والجاهزية، وقد أجهزت عليه «الاتفاقية» الأخيرة التى تمت برعاية الدول الخليجية حيث تفرق المنتسبون له إلى كافة المدن والمراكز اليمنية، وكان ذلك سببا فى الظهور القوى للحوثيين، والذين بدأوا من قبل نشاطهم السياسى ب «حزب الله» ثم غيروه إلى حزب الحق، ثم الشباب المؤمن.. ثم الحركة الحوثية تحت مسمى «أنصار الله». وبسبب غياب الولاء للدولة.. تمكن الحوثيون من الانتشار السريع فى المدن المختلفة وعلى رأسها العاصمة، حيث كانت تصدر التعليمات إلى قادة المعسكرات بالتسليم.. أى تسليم المعسكر بمعداته إلى الحوثيين دون قتال إلا المنطقة الرابعة والتى تشرف على باب المندب.. فالقوات الرابضة فيها تخضع لقيادة محمود الصبيحى وهو قائد عسكرى جنوبى.. أنذر الحوثيين بالقتال.. فتراجعوا آثرين السلامة. الطريف فى الموضوع أن الحوثيين قتلوا بطريق الخطأ بعض أفراد إحدى القبائل اليمنية كثيرة العدد.. فتجمعت القبيلة بعشائرها المختلفة طلبا للثأر أو أن يقوم الحويثيون بتسليم المتهمون بالقتل لتلك القبيلة ل «يقطوهم» ثأرا لأبنائهم.. الذين قتلوا غدرا ودون أى ذنب ارتكبوه! والموقف فى اليمن حاليا.. عبارة عن حوثيين يسيطرون على أغلب محافظات الشمال والوسط، والجنوب يستعد للانفصال، والرئيس لا حول له ولا قوة، وجمال بن عمر مبعوث الأممالمتحدة يحاول تشكيل حكومة يمنية جديدة.. لن تفعل شيئا.. فالكل يلعب فى اليمن.. سواء لتصفية حسابات قديمة.. أو رغبة لتفكيكه وإضعافه.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ??? كل ذلك.. وجامعة «الحكومات» العربية تراقب وتنتظر.. ولم تفعل- خلال الأيام الماضية- سوى التكريم.. والاستنكار والمناشدة، فالتكريم كان لأمير الكويت لاختياره «أميرا للإنسانية» من قبل الأممالمتحدة، وقد راعى الأمير ظروف الوطن وما يحدث فيه واعتذر عن عدم الحضور، وبدت الجامعة كمن ذهب للمجاملة فى فرح صديق له، أما الاستنكار فكان للحادث الإرهابى بشمال سيناء، وكانت المناشدة للأمم المتحدة فى وقف العدوان الإسرائيلى على المسجد الأقصى. رحم الله الجامعة وألهمنا الصبر والسلوان.