فى هذا الحوار ليست أسئلة المحاور مهمة، هذا ما اكتشفته وأنا أفرّغ محتوى شريط الكاسيت الذى خزنت فيه الحوار ورأيت أن أسئلته تقطع السرد الجميل لقصة حب ووفاء وتعطّل دفعة شعورية تقلل من دفء كلمات إسماعيل منتصر رابع رئيس تحرير فى عمر مجلة أكتوبر أمد الله فى عمرها وعمره هذا الصحفى الذى شرفت بالعمل معه وتحت قيادته وأعلم أنه كان يعتز جدًا أن يسبق مسماه الوظيفى كرئيس تحرير مسمى رئيس مجلس إدارة دار المعارف المؤسسة الأم والحاضنة الوفية لمجلة أكتوبر. قال إسماعيل منتصر: «أعتبر نفسى محظوظًا لأننى عاصرت تجربة مخاض ثم ولادة «أكتوبر» وأضاف الآتى: كانت «أكتوبر» عبارة عن عمود أساسى هو رئيس التحرير أنيس منصور وحول هذا العمود تحلق شباب كثر معظمهم لم تكن له تجربة صحفية من قبل وأنا واحد منهم بالإضافة لمجموعة من الصحفيين الكبار الذين غامروا بترك صحفهم التى كانوا يعملون بها وجاءوا مع أنيس منصور إلى مبنى دار المعارف العريق الكائن على كورنيش ماسبيرو لإصدار مجلة «أكتوبر». هذه كانت أضلاع المثلث الذى مثّل فيه أنيس الرأس وقاعدته الكبار وضلعيه الآخرين الشباب وأزعم أن أنيس منصور شجّع الشباب وأعطاهم فرصة حقيقية وكنت أسمع من الذين سبقونى فى المهنة كيف عانوا حتى ظهرت أسماؤهم منشورة على موضوع وكانوا يفرحون بهستيريا إذا ظهر اسم الواحد منهم ببنط صغير على موضوع مطبوع، أما أنيس منصور فقد منحنى فرصة ذهبية سبقت بها الكبار حينما نشر لى موضوعًا فى عدد «أكتوبر» الأول الصادر فى 31/10/1976. الإنسان والكاتب وعلى المستوى الإنسانى جعلت من الأستاذ المثال والنموذج على المستويين الإنسانى وعلى المستوى الصحفى كانت تعجبنى رشاقة عباراته وطريقة تفكيره غير التقليدية وإصراراه على التميز، وكنت كلما أكتب موضوعًا أضع أمام عينى النموذج الذى هو الأستاذ لا أقلده فى الكتابة ولكن أبحث عن تميزه. درسان تعلمتهما من الأستاذ لا أنساهما أبدًا الأول كيف أكون إنسانًا.. والثانى كيف أكون صحفيًا وقد منحنى الأستاذ مكافأة السفر إلى إسبانيا فى العام الثانى من عمر «أكتوبر» فذهبت أسأله باهتمام عن مهمتى الصحفية، وكنت أتصور أننى لابد أن أعمل صحفيًا منذ لحظة مغادرتى مطار القاهرة.. ماهى الموضوعات التى تكلفنى بإنجازها؟! سألت الأستاذ فضحك وقال لى: «أظن أن هذه أول مرة تسافر للخارج فى حياتك فكل المطلوب منك أن تستمع وتشاهد وتتأمل وتسعد نفسك بكل ما هو متاح وعندما تعود إلى مصر سوف تجد نفسك محملًا بكثير من الموضوعات التى يمكن أن تكتبها». الدرس الثانى الصحفى كان يوم أن التقت أسرة «أكتوبر» بالرئيس السادات فى قريته بميت أبو الكوم وكانت أول مرة ألتقى فيها رئيس الجمهورية وحرصت أنا وزملائى على أن نلتقط العديد من الصور التذكارية معه وعدنا إلى مقر المجلة وجلسنا نتحدث بانفعال عن الزيارة التاريخية لنا وبعد مرور 3 أو 4 ساعات دخل الأستاذ صالة التحرير وسألنا: «ألم تؤثر الزيارة فى أحدكم حتى يكتب موضوعًا عنها؟!» وصدر العدد التالى من أكتوبر يحوى موضوعًا كتبه الأستاذ ووقعه: «واحد من شباب أكتوبر» وشعرت بالخجل وأظن أن كثيرين من زملائى شعروا مثلى بذلك لكننى تعلمت فى هذا اليوم أن الصحفى يجب أن يكون صحفيًا 24 ساعة فى اليوم ولا يسمح لأى انفعالات أن تبعده عن مهمته الأساسية. وأعرف أنه لا يوجد بشر يمكن أن نقول عنه إنه ملاك لكننى كنت أعشق هذا الرجل وأعتبره - ومازلت - أستاذى وكان هذا الحب يخفى عن عينى أى عيوب له. أجمل الأيام وأصعبها صادفت فى «أكتوبر» ودار المعارف أيام كثيرة جميلة وأخرى صعبة وأجمل أيامى التى أتذكرها يوم أن كلفنى الأستاذ أنيس بإصدار ملحق عن معرض القاهرة الدولى وكان هذا فى وقت مبكر جدًا فى عمرى الصحفى فاعتبرت هذا تشريفا كبيرا لى وعلى الرغم من أن هذا الملحق كان هدفه جذب الإعلانات وكنت مكلفًا بإنجاز مادته التحريرية أذكر أن الأستاذ طلب منىّ أن ألتقى شخصية إسرائيلية جاءت إلى مصر بمناسبة المعرض فألتقيت به لكننى لم أنشر فى الملحق حرفًا مما قاله هذا الإسرائيلى وأنا أعلم حجم المغامرة حين يعرف الأستاذ، وبعد صدور الملحق سألنى الأستاذ: أين كلام الرجل الذى كلفتك بالحديث معه؟! فأجبته: لم تطاوعنى يدى أن أكتب حرفًا مما قاله لأننى لا أتصور فكرة التعامل مع الإسرائيليين مهما كان هناك سلام بيننا وبينهم فضحك الأستاذ طويلًا وهو يردد مقولة سعد زغلول الشهيرة «مفيش فايدة»!! أما أصعب الأيام فكان يوم اغتيال السادات وكان الأستاذ مشغولًا جدًا بمتابعة الأحداث لدرجة أنه ترك المجلة وتوجه لمستشفى المعادى ونحن نضرب أسداسًا فى أخماس حتى جاء فى المساء متأخرًا واجتمع بالصحفيين ووزع التكليفات التى يشملها العدد التالى عن الحادث ولم يحالفنى الحظ أن أنال تنفيذ إحداها فعدت حزينًا للمنزل ثم تذكرت أننى أمتلك مجلدًا قديمًا يحوى موضوعا قديما عن الضابط أنور السادات عنوانه (صفحة من مذكرات الضابط أنور السادات) وتركته للأستاذ فى مكتبه لأفاجأ به منشورًا على صفحتين فى المجلة. الدار والموارد ومن أجمل وأصعب تجارب حياتى المهنية إدارتى لمؤسسة دار المعارف وخلال هذه الفترة - كنت - مشغولًا بتدبير الموارد المالية للمؤسسة وأحمد الله أننى نجحت فى مهمتى إلى آخر لحظة توليت فيها المسئولية وقد أدرت المؤسسة بعقل الصحفى على سبيل المثال فكرت فى إصدار كتاب أجمع فيه حوارات الأستاذ أنيس مع الرئيس السادات وكان الأستاذ نفسه غير متحمس لهذه الفكرة لكننى كنت واثقًا من نجاحها فألححت عليه ومعى مديرة النشر منى خشبة حتى أقنعناه وطلبنا منه أن يكتب مقدمة الكتاب وبعد شهور طويلة من الانتظار كتبها وصدر الكتاب ليحقق نجاحًا هائلًا يتمثل فى إصدار أكثر من طبعة منه. الثورة والبلاغات وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011 تعاملت مع الحدث من منطلق مراعاة مصلحة المؤسسة والعاملين فيها، وأعتقد أن العاملين فى المؤسسة شعروا بالجهد الذى أبذله وأظن أن هذا سر استمرارى فى موقعى كرئيس مجلس إدارة بعد الثورة حتى جاء الإخوان إلى الحكم وقاموا بتغييرى. أما البلاغات التى تم تقديمها ضدى بعد الثورة فقد ثبت بقرارات النيابة العامة والجهات الرقابية أنها بلاغات كيدية لكنها فى الحقيقة آلمتنى لأن بعض الذين تقدموا بهذه البلاغات جمعنى وإياهم مواقف إنسانية تصورت أنهم سيحفظونها لكنهم خيبوا ظنى بالإضافة إلى أن مثل هذه البلاغات عطلتنى كثيرًا عن مهمتى الأساسية كرئيس للمؤسسة. وأخيرًا أعلم أن هناك جهدا كبيرا يبذل لتطوير المجلة وكنت شخصيًا أتمنى أن تصدر المجلة ملونة وبالطريقة التى تصدر بها الآن لكننى فى نفس الوقت لا استطيع أن أعفى كل محرر فى أكتوبر وكل عامل فى دار المعارف مسئوليته فى الحفاظ على المجلة والمشاركة فى تطويرها ومساعدة إدارتها بفاعلية أكبر فى أن تظل الفتاة الجميلة التى ولدت يوم 17 أكتوبر 1976.