المجتمعات الإنسانية تتشابه فى سلوكها الجمعى مع مياه المحيط...فهى تهدأ أحيانا وتثور أحيانا... ولأن مياه المحيط يمكن أن يتحول إلى تسونامى عنيف هادر... كذلك تتحول سلوك المجتمعات من الهدوء والدعة إلى الثورة والغضب. ولا تثريب على قوم يعبرون عن غضبتهم من واقع يومهم إذا كان أمسهم كئيبا مهينا... وهنا – إن لم يحسنوا التعبير وامتطاء وسائل أمينة لإصلاح واقعهم - تتحول السلوكيات الهادئة الجمعية إلى موجات غضب وحنق وامتعاض...ربما لا حدود لها.. قد تعصف بالأخضر واليابس على الأرض....وقد تستمر غضبة الشعوب سنة أو عشرات السنين... والانتقال المجتمعى، الذى يلبى حاجة البشر للتغيير الإيجابى، هو شأن إنسانى صرف، والتغيير هو سنة بنى البشر دون سواهم من كائنات الحق على أرض المعمورة... ولذلك فطبيعة حياة الإنسان اليوم مختلفة عن الأمس وعن الحال منذ آلاف السنين.. بينما الأنعام على سبيل المثال.. حالها اليوم كحالها منذ خلقت.. لا تغيير فى شىء.. اللهم إلا التغيير فى نمط البشر فى التعامل معها..وهو تغيير ليس الحيوان –بل الإنسان – مصدره... وهنا نقف هنيهة لنتفكر... هل الهدف هو الثورة أم الهدف هو الإصلاح؟ وهو سؤال بديهى ..ولكن نادرا ما نجهر به.. ولو حتى بين ومع أنفسنا..على الرغم من أهمية السؤال العميقة والتباس الإجابة لدى البعض.. إن الثورة لم تكن يوما هدفا فى ذاتها..بل الإصلاح هو الهدف... وهنا تتعين التفرقة منهجيا بين الثورة والإصلاح...لأن الانتقال المجتمعى قد يمر بهما معا أو بالإصلاح فقط أو الثورة فقط بلا إصلاح..والفارق بينهما جد جسيم... فالإصلاح المقصود كبديل للثورة هو تغيير منهجى فى نمط السلوك المؤسسى للدولة الرسمية... يغير ما به من عوج ، وينظر بتؤدة واحترام لمنهجية الرؤية الإصلاحية بشكل يوازن بين الطموحات العالية ومنطقية الإمكانات وإدراك واقع الحال وصعوبات المسألة.. ففكرة الإصلاح المؤسسى فى ذاتها، هى تقويم سلمى لمنهجية رسمية، هذا التقويم يدخل فى اعتباره الحفاظ على منظومة الدول قائمة وقوية تقديرا للمخاطر التى ستنال المجتمع من هدم هذه المؤسسات، كبديل عشوائى وأخر لخيار إصلاحها وهى قائمة حيث إن إصلاحها وهى قائمة وتدير أعمالها هو بديل عقلانى ، ربما يستغرق بعض الوقت ، ولكنه يبقى على الدولة الرسمية قوية. ولكن الثور ة تختلف كثيرا عن الإصلاح..فمنطق الأحوال فى الثورات تاريخيا يقول إن الثورات ربما تقوم لإصلاح واقع المجتمعات، ورفع الظلم عنها، ولكنها كثيرا ما تنتهى بالفوضى والدماء والانهيارات المتنوعة.. لتوارى الغرض الإصلاحى، خلف مطامع بشرية لا حدود لنفوذها، فالثورة هى وسيلة للإصلاح.. وليست غاية فى حد ذاتها.. وهنا يتبين الفارق الخطير بينهما... فالثورة يجب – حتى تظل فى إطار فكرة الثورية الإيجابية - أن تكون موجهة إصلاحيا.. أى يجب ألا تخرج الثورة فى سلوكها عن النهج الذى يكرس ويقيم فكرة ومنهج التغيير الإيجابى فى مؤسسات الدولة ... فالفارق الكبير هنا أن الثورة وسيلة شعبية بينما الإصلاح غاية مجتمعية... الأولى تحكمها العاطفة وربما الغضب والنفعية، بينما الثانى يحكمه منطق التغيير للأفضل. ولأن المصطلحين مختلفان تماما ..فإننا سنجد الفارق فى ترتيبهما فى الجملة اللغوية فارق كبير وعظيم: فعندما نقول إصلاحا ثوريا فهو مصطلح منضبط بطبيعته لأنه يضع، بل ويوظف، فكرة الثورة فى إطار منضبط سلوكيا ومنهجيا هو إطار الإصلاح المؤسسى، وهنا تعمل الثورة عملها فى جعل وتيرة الإصلاح أسرع وأكثر عمقا وأكثر مصارحة وربما أشد إيلاما... لكنها تظل فى النهاية ثورية منضبطة بفكرة الإصلاح المؤسسى نفسها.. انضباطا يعصم الإصلاح والمؤسسة والمجتمع من الانهيار أو الفوضى..أما على الطرف الآخر... فهو مصطلح الثورة الإصلاحية... فكلمة الثورة هنا هى الأساس، بما فيها من احتمالات لا حد لها من الانكفاء والخروج عن المسار الثورى، وخاصة فى ثورات كثورة المصريين فى 25 يناير التى كانت بلا قيادة تنير الطريق الثورى، وترده للصواب حال جنوحه عن الجادة... وهنا تكون الخطورة كامنة فى كون الثورات بطبيعتها لا تميل للضبط أو الانضباط... والضبط هنا يكون استجابة إما لضغوط مجتمعية أو مصلحية، بينما الانضباط هو أن تنمط الثورة لنفسها آليات لضبط مساراتها، من داخلها، وهنا الكارثة..فالثورات قلما تنضبط أو تقبل الضبط، وغالبا ما تجنح للخروج عن مسار الشعارات النبيلة البراقة، لتدخل المجتمع معها فى شلال من الفوضى والترنح..وهذه آفة الثورات.. وحتى تكتمل الفكرة، فالقول هنا واجب أن نحذر من الثورة أن تتحول إلى غاية فى ذاتها.. لأنها الكارثة بعينها.. أن فكرة الثورة الغاية تلائم مجتمعا همجيا.. تاهت من أمام ناظريه بوصلة المستقبل... فقنع باجترار همومه على أطلال الماضى... وهو ينزف الدماء والأموال فى كل دقيقة من يومه، فى الوقت الذى تئن فيه الملايين من أبناءه من الجوع والفقر والمرض والجهل... ورويدا تخبو صورة الدولة المنظمة..ليحل محلها فكرة الثورة المستمرة.. التى تؤسس لشرعية الفوضى، وتكرس لواقعية العشوائية... وهذا أخطر مسارات الثورة الإصلاحية... أنها إن حادت عن الإصلاح.. فهى تقود المجتمع حتما إلى الخراب والدمار.. وأولى خطوات الخراب، وأقوى مظاهر الدمار، هو ضعف هيبة الدولة المؤسسية القانونية وتفشى سلوك الهمجية بين طوائف المجتمع المختلفة... فتضيع الحقوق، ويتفشى الخوف وتشيع العشوائية، ليصبح الاحتماء بالسلاح شائعا بين الأفراد، بدلا عن الاحتماء بالقانون وسيادته فى الدولة المنضبطة.. نحن فى مصر فى حاجة ماسة اليوم إلى أن نقدم فكر الإصلاح المنهجى على فكر الثورة الإصلاحية..الذى لم يجر علينا فى خلال السنوات التالية لثورة 25 يناير إلا الخراب والتراجع والهمجية التدريجية، لأن ما حدث لم يكن ثورة إصلاحية ، ربما قد بدأ كذلك، لكنه تحول تدريجيا إلى ثورة مستمرة، لتحقق مصالح محدودة وغير مشروعة للبعض من أبناء الوطن بالداخل والكثير من الكارهين والحانقين والمتربصين بالخارج... ولعل الإيجابية التى يجب أن نعتصم بها فى بلادنا المعمورة مصر، هى تلك المؤسسات التى وقفت وتقف فى سبيل تنامى الفكر التخريبى الملتحف بالثورة والمتدثر بالدين، وأقصد مؤسسات السيادة بالدولة، الجيش والشرطة والقضاء، وهى التى يقع عليها العبء الأعظم فى عصمة المجتمع المصرى من أن ينقلب على عقبيه... فنصبح – لا قدر الله – مثل سوريا أخرى أو عراق أخرى أو صومال أخرى أو ليبيا أخرى أو يمن أخرى .. وهى بلاد عزيزة ضربتها موجات تسونامى الثورة فى أقبح صورها ، فتركتها أنقاض دول وأشباه مجتمعات، تسيل فيها الدماء أنهارا متدفقة من أبناء الإسلام والعرب... وكلها تحت راية الجماعات الدينية.. التى لم تَجُرْ على المسلمين، إلا الخراب والشقاق والدمار، وعلى الإسلام منذ منشأه إلا التلويث فى السمعة...ووسمه بالدين الهمجى والمتخلف والبربرى... بينما الإسلام الحق يزهو فى جوهره بالوسطية، ويزدان فى أعلاه بالرحمة، وتسوده فى قاعدته مكارم الأخلاق.. وكلها قيم لا تعرف عنها الجماعات الدينية شيئا.. بل لم تسمع بها من قريب أو بعيد... حمى الله مصر العروبة من كل مكروه وسوء ..وعلينا أن نعلم يقينا أن عصمة مصر من السقوط فيها عصمة للعرب جميعا... دعونا نعود لحكمة الزمان... فالعقل ليس فقط زينة الإنسان، ولكنه زينة المجتمعات أيضا، ونحن اليوم فى حاجة إلى العقل لضبط جموح سلوكيات الثورة وردها إلى مسار الإصلاح... وأمام المجتمع المصرى فرصة ذهبية لعودة الثورة إلى مسارها الإصلاحى الديمقراطى، ففى انتخابات الرئاسة، يجب على كل مصرى محب لوطنه أن يخرج فيها ويقول رأيه، دونما قيد أو توجيه، ولتقيم مصر المؤسسية انتخابات حرة ونزيهة وعادلة... تقنع بها شعب مصر أولا، الذى هو السيد، ثم ترد بها على من أساء تقدير ما حدث فى ثورة 30 يونيو... لأن تلك الانتخابات سوف تعيد عربة الثورة الإصلاحية إلى طريقها السوى، كوسيلة مجتمعية ليس إلا... يتحرك من منطلقها المجتمع للأمام.. ولكن بإصلاح هادئ واثق منضبط... ومازالت لنا فى مصر فرصة لنفعل ذلك... يجب على مصر العروبة ومصر الإسلام ومصر المسيحية أن تحافظ على ما تبقى من كرامة العرب، ومن سمعة الأديان، أمام التاريخ الذى لن يرحم الأمم التى استسلمت - بانهيارها بسهولة وسذاجة - لفكر الشرذمة والتفكك... حتى ولو كان تحت راية الثورة.. وحتى ولو كان تحت راية الدين.