الإسراء والمعراج مرحلة فاصلة فى تاريخ الدعوة بين المحنة والمنحة وتشريفا لنبينا ( صلى الله عليه وسلم )لم يجز به إنس ولا ملك ولا جن منذ بدء الخليقة.. فقبل الرحلة حاصر أهل الكفر النبى ومن آمن معه حتى أكلوا حشائش الأرض وتوالت المحن على رسولنا.. فجاءت المنية لرفيقة حياته وعمه الداعمين له ومصدره الوحيد للحنان والعطف من بداية دعوته.. وما لبث أن واجه الجفاء والسخرية والظلم من أهل الطائف فى بحثه عن أرض جديدة يبلغ فيها رسالته.. فألقى عليه الحجارة من أطفالها ورجالها ونسائها حتى سالت دماؤه الشريفة.. فلاذ إلى ربه يناجيه « اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلنى، إلى عدو يتجهمنى، أو إلى قريب ملكته أمرى، إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، غير أن عافيتك أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بى غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. ومن يتأمل ويتفكر قسوة الأحداث وثقلها على عاتق نبينا الكريم ( صلى الله عليه وسلم )وتأثيرها فى استمرار نشر الدعوة.. يجد فى ظاهرها تقهقرًا للدعوة وضعفًا للنبى ولكن فى كنها مازادت رسولنا إلا تثبيتا ولذلك فلم ينتظر الحبيب على حبيبه شوق اللقاء وأن تستمر معاناته.. فأراد المولى تشريف وتعظيم ملائكته وأهل السماوات برؤية النبى الخاتم الذى خلق الكون من أجله وتكريمه برؤية نور وجهه الكريم وليريه من آياته الكبرى.. فكان أمره برحلة الإسراء والمعراج وهى فى حد ذاتها معجزة زمنية وليست مادية.. فقد انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين أى أن علمه وإيمانه بأن حياة الآخرة خير وأبقى بعد قضاء الدنيا.. فقد أطلعه الله فى الدنيا على الجنة والنار ورآها بعينيه وأخصه هو دون غيره برؤية المستقبل فى عالم ما بعد القيامة كما قال تعالى: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى). وتأتى الرحلة العظيمة تطهيرًا لأصحاب الإيمان واليقين من المنافقين وضعفاء الإيمان ويمثل هؤلاء شوكة للدين وأهله وفتنة لأهل الإيمان.. فسرعان ما شككوا فى حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم )عن وصفه لرحلته.. وهذا ما بينه المولى فى قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ).. ومن قبل استهزأ كفار قوم نوح على سفينته.. ولكن كان رد أبو بكر على هؤلاء ضربة إلى عقولهم فقال: «إنى لأصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء». والله تعالى شرف جميع أنبيائه بالمعجزات الحسية ووقعت أحداث خارقة للعادة مثل موت «عزير» مائة عام ثم أحياه ويقظة أهل الكهف بعد نومهم لثلاثة قرون وتسعة أعوام وتسخير الرياح لسليمان.. ألم تكن هذه آيات آمن بها أهل الكتاب فجاءت معجزة الإسراء والمعراج لتقفز وتعلو فوقهم جميعا ولتسمو برسولنا درجة ولكى يطمأن قلبه.. ونسأل أيضا.. هل من قرن اسمه الجليل باسم نبيه أن يضن عليه بالإسراء وأن يعرج به إلى سدرة المنتهى حيث النور الإلهى ومنها يفرض على الأمة الصلوات الخمس؟. وبعد الرحلة بعام واحد كانت الهجرة نقطة انطلاق الإسلام وتوطيد أركانه وإقامة الدولة الإسلامية فى المدينةالمنورة إلى أن توسعت شرقا وغربا بواسطة سلاحها البتار الموعظة الحسنة وإقامة الحق والعدل.. فكانت الرحلة البشرى لنصرة دين الله وإزهاق الحق على الباطل واستسلام أهل الظلم والنفاق.. وتأتى الرحلة تدعيما لمقام النبى ( صلى الله عليه وسلم )ورسالة لكل مؤمن أن يصبر ويحتسب على البلاء.. فكلما اشتد ظلم الناس وكثرت الفتن كان نصر الله قريبا ولو كره الكافرون. ** والمتأمل فى معنى الإسراء نجده تكرر مرتين فى حياة الرسول.. والإسراء يعنى الانتقال من مكان إلى مكان وفى الرحلة انتقل الرسول من مكة إلى المسجد الأقصى.. أما المرة الثانية فهجرته من مكة إلى المدينةالمنورة حيث تخطت الدعوة مرحلة الإقليمية إلى رحاب العالمية. وأفاضت الرحلة الإلهية بمعانٍ ورسائل كثيرة منها أن الإسلام الدين الخاتم والجامع من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. فقد شمل أولى القبلتين وثالث الحرمين.. وأن رسولنا إمام الأنبياء.. فقال تعالى:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )(1)