هو الوليد بن عبيد بن يحيى الطائى، ينتهى نسبه إلى قبيلة طيئ القحطانية (اليمنية)، وكانت أمه من قبيلة شيبان من ربيعة (العدنانية) كنى بأبو عبادة، واشتهر بالبحترى، نسبة إلى بحتر أحد أجداده، وولد فى قرية منبج التابعة لمدينة حلب السورية، والتى ولد فيها أيضا الشاعر المعروف أبو فراس الحمدانى. ولد شاعرنا موهوبا وتتلمذ على يد أبو تمام الذى كان يقيم فى حمص، ووصف شعره بسلال الذهب، وبعد أن ثقل موهبته ارتحل إلى بغداد فى عهد الخليفة الواثق، ويقال إنه أحب فتاة سورية اسمها «علوه» ووصفها فى بعض أشعاره: بيضاء، يعطيك القضيب قوامها ويريك عينيها الغزال الأحور تمشى، فتحكم فى القلوب بدلها وتميس فى ظل الشباب وتخطر قرأ البحترى كتب التاريخ والسير، فضلا عن الشعر، كما استفاد من رحلاته إلى الشرق والغرب.. حتى قال: مالى والأيام، صرّف صرفها حالى، وأكثر من البلاد تقلبى أمسى زميلا للظلام، واعتدى ردفا على كفل الصّباح الأشهب فأكون طورا مشرقا للشرق الاقصى، وطورا مغربا للمغرب كما كان البحترى طموحا صاحب عزيمة، لا يرضى بالواقع إلا أنه كان مؤمنا بالقضاء والقدر.. وقد قال: وأرى همتى تكلفنى حمل أمور خفيفهن ثقيل ولو انى رضيت مقسوم حظى لكفانى من الكثير القليل وأيضا كان شجاعا مقداما، شارك فى بعض الغزوات والفتوحات ومنها مدينة عفرقس الرومية.. وها هو ذا يفخر بذلك: وأنا الشجاع، وقد بدا لك موقفى بعفرقس والمشرفية شهدى ورأيتنى، فرأيت أعجب منظر ربّ القصائد فى القنا المتقصد وقد برع البحترى فى شعر الوصف، ومن منا لم يحفظ تلك الصورة الشعرية الجميلة بقدوم الربيع: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن، حتى كاد أن يتكلما ورق نسيم الريح، حتى حسبته يحيى بأنفاس الأحبة نعما كما برع أيضا فى المدح الذى شكل أغلبية ديوانه، وقد كانت هذه عادة الشعراء فى العصر العباسى.. يمدحون الخلفاء والوزراء وكبار القادة لينالوا عطاياهم، وها هو ذا يمدح الخليفة ويصف موكبه بالتواضع، إلى جانب محبة الناس.. بل كاد المنبر يمشى إليه: ومشيت شبه خاشع متواضع لله لا يزهى، ولا يتكبر الله أعطاك المحبة فى الورى وحباك بالفضل الذى لا ينكر فلو ان مشتاقا تكلف فوق ما فى وسعه لمشى إليك المنبر ومما يذكر أن البحترى كان نديما للخليفة المتوكل ومستشاره الفتح بن خاقان، وفى إحدى الليالى دخل عليهم أنصار المنتصر ابن المتوكل فقتلوا الخليفة ومستشاره وهرب البحترى بعد أن تلقى ضربة فى ظهره بقيت آثارها عليه طوال حياته! قد قال شعرا جميلا فى المتوكل قبل وفاته، منه هذا العتاب الرقيق: هل يجلبن إلى عطفك موقف ثبت لديك، أقول فيه وتسمع مازال لى من حسن رأيك موئل آوى إليه من الخطب ومفزع فعلام أنكرت الصديق، وأقبلت نحوى ركاب الكاشحين تطلع إلا يكن ذنب فعدلك واسع أو كان لى ذنب فعفوك واسع ومع ذلك فقد كان دائما معتزا بنفسه، فخورا بقومه وأصوله القحطانية: إن قومى الشريف قديما وحديثا: أبوة، وجدودا ذهبت طيئ بسابقه المجد على العالمين بأسا، وجودا وأطرف ما يحكى عن البحترى، أنه واجه أحد الذئاب الجائعة، ولكنه لم يصاحبه كما فعل الشاعر الفرزدق، بل واجهه وصرعه، ثم شواه، ويقول فى ذلك: سما لى، وبى من شدة الجوع ما به بميدا لم تعرف بها عيشة رغدا عوى، ثم أقعى فارتجزت، فهجته فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد فخر، وقد أوردته منهل الردى على ظما، لو أنه عذب الورد وقمت، فجمعت الحصى فشويته عليه، وللرمضاء من تحته وقد كان البحترى شاعرا مثقفا درس الأدب القديم والمعاصر، فألف كتاب «الحماسة» الذى جمع فيه أشعار ستمائة شاعر أكثرهم من المخضرمين فى الجاهلية، كما وضع كتابا آخر فى «معانى الشعر» وترك ديوانا ضخما من الشعر الجميل فى الوصف والمدح والفخر والرثاء.. واختتم بهذين البيتين الناعمين! أخفى هوى لك فى الضلوع، وأظهر وآلام فى كمد عليك، وأعذر وأراك خنت على النوى من لم يخن عهد الهوى، وهجرت من لا يهجر!