هو الشاعر رقيق الحس، عف اللسان، سهل المعانى، قوى التعبير، إنه جرير بن عطية الخطفى، والذى لقب بأبى حرزة (أكبر أبنائه)، وكذلك بابن المراغة وهو لقب وصفت به أمه من أحد الشعراء الذين هجوه. تميز جرير عن رفيقيه: الأخطل والفرزدق فى الغزل والرثاء كما نازعهما فى الهجاء، ولكن مشكلته أنه ولد فى فرع فقير من قبيلته الكبرى تميم، وهو يربوع، وكانت أسرته بنو كليب رقيقة الحال، يرعون الغنم والحمير، لا خيل لهم ولا جمال عندهم! ومن ثم نشأ بدويا فقيرا فى منطقة نجد، ولكن فى أسرة عرفت الشعر أجيالا، حيث كان جده ثم أبوه، ومن بعده أولاده وأحفاده، ينشدون الشعر ويجيدونه، كذلك إخوته عمرو وأبو الورد. تزوج جرير من أكثر من واحدة وأنجبن له عشرة من الولد منهم ثمانية ذكور، وكان ينصح أولاده وأحفاده بأن أطيلوا الهجاء وأقصروا الممادحة، وقال عن نفسه: «إنى لمدينة الشعر.. منها يخرج وإليها يعود..». عرف جرير الشعر وصاغه مبكرا، وجاء شعره سهلا مباشرا خاليا من التكلف والحشو والتعقيد، فانتشر وجرى على الألسنة، فمن منا لم يردد بيته الشهير والذى يهجو فيه الفرزدق «زعم الفرزدق أن ينقل مربعا، أبشر بطول سلامة يا مربع» وأيضا كان شعره الغنائى الجميل «العيون القاتلة» والتى تغنى بأبياتها صداح العرب الفنان الكبير صباح فخرى. إن العيون التى فى طرفها حور قتلننا ثم لم يحين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا والطريف أن تلك القصيدة الجميلة «العيون القاتلة» كان ينوى بها هجاء الشاعر الأخطل، إلا أنه كعادة الشعراء القدامى بدأ بالاسترسال فيها مع نفسه ووجده وذكرياته، فى شعر عذب ناعم، وهيام عميق.. كاد ينسيه غرضه.. وهو الهجاء، ومما قاله فيها أيضا: يا أم عمرو جزاك الله مغفرة ردى على فؤادى كالذى كانا ألست أحسن من يمشى على قدم يا أملح الناس كل الناس إنسانا لقد كتمت الهوى حتى تهينمى لا أستطيع لهذا الحب كتمانا لا بارك الله فيمن كان يحسبكم إلا على العهد حتى كان ما كانا وكعادة الشعراء فى كل عصر، التحق جرير مع رفيقيه الأخطل والفرزدق بالأمويين وخاصة آل مروان، فمدحهم ودافع عنهم، وها هو ذا يفضلهم عمن سواهم ويذكر صلة الخلافة بالدين. لولا الخليفة والقرآن يقرؤه ما قام للناس أحكام ولا جمع أنت الأمين أمين الله لا سرف فيما وليت ولا هيابه ورع يا آل مروان إن الله فضلكم فضلا عظيما على دينه البدع ويروى أن الخليفة عبد الملك بن مروان سمع بشعره فى الحجاج وإليه على العراق، فاغتاظ وتمنى لو صار إليه، فبعث به إليه مع ابنه محمد فاستقبله عبد الملك معاتبا: ما داعى أن تقول فينا بعد قولك بالحجاج عاملنا. من سد مطلع النفاق عليهم أمن يصول كصولة الحجاج؟ إن ابن يوسف فاعلموا وتيقنوا ماضى البصيرة واضح المنهاج ثم أكمل الخليفة: إن الله لم ينصرنا بالحجاج، إنما نصر دينه وخليفته، وظهر الغضب على وجهه، فتوسط ابن الحجاج بينهما، ثم أنشد جرير قصيدته المشهورة والتى يقول فيها: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح لكم شم الجبال من الرواسى وأعظم سبل معتلج البطاح فتبسّم عبد الملك، وقال: كذلك نحن، ومازلنا كذلك، وأمر له بعطية كبيرة، ومن بعدها لزمه جرير، ومدح أبناءه الوليد وسليمان ويزيد. وكان جرير معجبا بالخليفة عمر بن العزيز، حيث اعتبره خير من أناب إلى الله، ورعى حقوقه، وأقام حدوده، وأدى الأمانة العظمى صابرا فحزنت الدنيا لوفاته، وبكت الشمس لفقده.. وقال يرثيه بعد وفاته: تنعى النعاة أمير المؤمنين لنا يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمرا عظيما ما صطبرت له وقمت بأمر فيه الله يا عمرا فالشمس طالعة ليست بكاشفة تبكى عليك نجوم الليل والقمرا لقد كان جرير يجيد الرثاءن بل تفوق فيه على رفيقيه الأخطل والفرزدق، وله قصيدة «الجوساء» يرثى فيها زوجته أم حرزة: لولا الحياء لعادنى استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار ولقد نظرت وما تمتع نظره فى اللحد حيث تمكن المحضار وكذلك عندما رثى ابنه سوادة، الذى توفى فى حياته، وهى من المراثى التى كان يرددها الشاعر المعروف بشار بن برد إعجابا بكلماتها: فارقتنى حين كف الدهر من بصرى وحين صرت كعظم الرمة البالى أمسى سواده يجلومقلتى لحم باز يصرصر فوق المربأ العالى وكذلك مرثيته الشهيرة لصديقه اللدود، ورفيق دربه الفرزدق: لعمرى لقد أشجى تميما وهدها على النكبات الدهر موت الفرزدق عشية راحوا للفراق بنعشه إلى جدث فى هوة الأرض معمّق لقد غادروا فى اللحد من كان ينتمى إلى كل نجم فى السماء محلق عماد تميم كلها ولسانها وناطقها البذاخ فى كل منطق أما الهجاء فقد كان زعيمه.. وكتب السيرة مليئة بما يسمى بالنقائض وهى الحرب الشعرية بينه وبين الفرزدق والأخطل، ونكتفى هنا بالإشارة إلى هذين البيتين اللذين عدا من عيون الفخر والهجاء معا: إذا غضبت عليك بنوتميم حسبت الناس كلهم غضابا فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا وتميم كانت القبيلة الأم، أما نمير فعشيره الفرزدق وكليب وكعب عشائر جرير!