يبدو الموقف الأمريكى تجاه مصر نموذجا للغرابة والغموض والتناقض.. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه موقف فى الحقيقة عجيب! الإدارة الأمريكية تأخذ موقفا عدائيا من ثورة 30 يونيو وتنحاز للإخوان وتعاقب مصر بقطع المساعدات المالية والعسكرية.. والإدارة الأمريكية تعود فتطلب من الكونجرس إيجاد وسيلة للحفاظ على تدفق المساعدات لمصر! والكونجرس الذى كان رأس الحربة فى الهجوم على مصر من خلال السيناتور جون ماكين.. يعود اليوم فيوجه سهامه للرئيس أوباما منتقدا سياسته المنحازة للإخوان! وحتى الصحافة الأمريكية لا تنجو من التناقض.. تهاجم «مرسى» وتصف حكمه بالسلطوى.. وفى نفس الوقت توجه هجوما حادا لجهاز المخابرات المصرية ودوره فى مساندة ثورة الشعب. فهل هناك أغرب وأعجب وأكثر غموضًا وتناقضًا من هذه المواقف؟ التفاصيل تفتح الأبواب المغلقة وتقودنا إلى الأسباب.. و«إذا عرف السبب بطل العجب» كما يقولون! والتفاصيل تقول إن الإدارة الأمريكية اتخذت من اللحظة الأولى موقفًا رافضًا لثورة 30 يونيو وداعمًا ومساندًا لجماعة الإخوان المسلمين.. والأسباب معروفة فقد أدى ابتعاد جماعة الإخوان عن المشهد وسقوط «مرسى» إلى قلب المخططات الأمريكية رأسا على عقب. والمخططات الأمريكية تشمل خطة توطين الفلسطينيين فى سيناء التى وافق عليها الإخوان.. كما تشمل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى وافق عليه أيضا الإخوان. ومن أجل هذه المخططات حاولت الإدارة الأمريكية وتآمرت.. حاولت أن تعيد مرسى إلى قصر الرئاسة.. وتآمرت من أجل إعادة الإخوان للمشهد السياسى.. فلما تبيّن لها أن تحقق ذلك مستحيلا حاولت - ولا تزال - نشر الفوضى وهز الاستقرار.. لعل وعسى!.. ثم هى تسعى للانتقام والعقاب بقطع المساعدات! ويبدو غريبا وعجيبا أن نفس الإدارة الأمريكية التى قطعت المساعدات - عقابا وانتقاما - عادت تطلب من الكونجرس إيجاد وسيلة للحفاظ على تدفق المساعدات لمصر.. بل إنها بدأت بالفعل فى التفاوض مع مسئولى المخصصات بالكونجرس بشأن استمرار المعونة الأمريكية لمصر. وتحدثت الصحف الأمريكية عن أن إدارة أوباما ستحتاج على الأرجح إلى تنازل تشريعى للإبقاء على المساعدات العسكرية وبرامج المساعدة المدنية لمصر.. وفقا لتصريحات عدد من أعضاء الكونجرس. لماذا تغير موقف الإدارة الأمريكية؟.. لماذا عادت إدارة أوباما تغازل الحكومة المصرية بعد أن قامت بتقطيع خيوط الوصل؟! ليس خافيا أن الإدارة الأمريكية أدركت أن مسألة قطع المعونة عن مصر لم تحقق أى تأثير حقيقى لا على اقتصاد مصر ولا على قرار مصر.. فى نفس الوقت بدأت الإدارة الأمريكية تشعر بأنها تتمتع بسمعة سيئة ليس فقط بالنسبة للشعب المصرى، وإنما لكل شعوب المنطقة.. والإدارة الأمريكية تدرك جيدا أن مصر هى بوابة العرب وأفريقيا.. فبدأت تتراجع عن مسألة قطع المعونة.. وعادت تغازل الحكومة المصرية من جديد. أضف لهذه الأسباب أن إسرائيل نقلت للولايات المتحدة مخاوفها من أن تؤدى مسألة قطع المعونة العسكرية إلى تشجيع مصر على المطالبة بتغيير بنود اتفاقية السلام.. أضف لهذا كله أن قطع المعونة أدى إلى تباعد مصر عن أمريكا وفى نفس الوقت أدى إلى تقارب روسيا من مصر! الرئيس بوتين أصبح يتمتع بشعبية كبيرة داخل مصر.. والزيارة التى قام بها مؤخرا مدير المخابرات الحربية الروسية لمصر.. زيارة لها معناها ومغزاها.. ثم الحديث عن تزويد روسيا لمصر بأسلحة حديثة متطورة.. كل هذا أثار مخاوف الإدارة الأمريكية. وليس غريبا بعد ذلك أن يطلب جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى من الحكومة المصرية تحديد موعد عاجل له لزيارة القاهرة! وكما وقعت الإدارة الأمريكية فى مستنقع التناقض.. وقع الكونجرس فى نفس المستنقع! *** ليس خافيا أن السيناتور الجمهورى جون ماكين كان رأس الحربة فى هجوم الكونجرس على الحكومة المصرية.. وليس خافيا الدور الذى لعبه لمساندة الإخوان والتآمر لإعادتهم للمشهد السياسى فى مصر. ثم إننا لا نستطيع أن نتجاهل دور الكونجرس الأمريكى نفسه فى قطع المعونة الأمريكية عن مصر. لكن الكونجرس الأمريكى عاد هو الآخر وبدأ يتراجع عن موقفه! شن عدد من النواب الأمريكيين هجومًا حادًا على الرئيس الأمريكى أوباما وإدارته بسبب موقفهم من مصر وسياستهم الفاشلة.. وسمعنا كلامًا كثيرًا من هؤلاء النواب.. سمعنا واحدًا منهم يقول: لو خَيّرت بين الإخوان والجيش لاخترت الجيش.. وسمعنا نائبًا آخر يقول: دعونا لا ندمر علاقتنا بمصر.. وسمعنا نائبًا ثالثًا يتحدث عن الأخطاء الفادحة التى ارتكبها مرسى.. وسمعنا من يتحدث عن دور الجيش المصرى فى الحفاظ على أمن سيناء. وأكثر من ذلك كله.. سمعنا اعترافًا صريحًا وواضحًا بأن ما حدث يوم 30 يونيو كان ثورة شعبية وليس انقلابا كما زعم الإخوان والأمريكان!.. فقد قال أحد النواب إن الجيش المصرى أطاح بالرئيس محمد مرسى استجابة للمتظاهرين ونتيجة لعدم استقرار الوضع الاقتصادى.. وأضاف أن مرسى ساند الإخوان والجماعات الإسلامية المتطرفة وأنهم جميعا عملوا فى الظلام! وأضاف النائب الأمريكى إلى اعترافه.. اعترافًا آخر عندما قال إن تعليق المساعدات الأمريكية لمصر ستكون له نتائج عكسية! ويطرح السؤال نفسه مرة أخرى: لماذا تغير موقف الكونجرس؟.. ولماذا راح يغازل مصر وحكومتها بعد أن قام بتقطيع خيوط الوصل؟! والإجابة ببساطة أنه على الرغم من أن السياسة الأمريكية عموما سياسة ثابتة لا تتغير بأشخاص. فإن ذلك لا يمنع من وجود بعض الاختلافات والمناورات أحيانا. الكونجرس بالقطع كان داعما للإخوان لتحقيق المخططات الأمريكية.. لكن عندما تبيّن له أن الإخوان اختفوا من المشهد وفقدوا القدرة على العودة له.. انتهز الكونجرس صاحب الأغلبية «الجمهورية» الفرصة لإسقاط الرئيس «الديمقراطى».. وهكذا هى السياسة الأمريكية عموما.. لا مبادئ ولا أخلاق! وهكذا حال الصحافة الأمريكية أيضا! *** شنت الصحافة الأمريكية حملات هجومية موسعة ضد مصر وحكومتها.. وليس خافيًا الدور الذى قامت به الإدارة الأمريكية وقام به الكونجرس لتحريض الصحافة الأمريكية على مصر. فى بعض الأحيان كانت الصحافة الأمريكية توجه انتقادات حادة لإدارة الرئيس أوباما بسبب انحيازها للإخوان.. وليس خافيا أن هجوم الصحافة أحيانا على الرئيس الأمريكى يأتى فى إطار الخلاف بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى.. لكن الصحافة الأمريكية عادت تشن هجوما حادا على مصر مؤخرا.. لماذا؟! تسربت معلومات عن دور المخابرات المصرية فى كشف عمليات التجسس التى قامت بها أمريكا على المستشارة الألمانية ميريكل.. وهو ما أثار غضب المخابرات الأمريكية فأوعزت للصحافة الأمريكية وخاصة صحيفة «نيويورك تايمز» لفتح نيران مدفعيتها على مصر وعلى جهاز مخابراتها ورئيس الجهاز! *** المواقف الأمريكية من مصر عموما تبدو غريبة وعجيبة ومتناقضة.. لكنها فى الحقيقة ليست كذلك.. ليست متناقضة لأنها تتغير طبقا لمبدأ واحد.. «لا مبادئ ولا أخلاق.. مصلحتنا قبل أى اعتبار»!.