«قبرص حديقة مصر الشمالية».. أجمل عبارة التقتطها أذنى عن العلاقة المشتركة والتاريخية بين البلدين، العبارة سمعتها من أحد خبراء السياحة فى زيارتى الأولى لهذا البلد الصغير الجميل وربما قال هذا لأن المسافة بين مصر وقبرص لا تزيد كثيرا على المسافة بين الإسكندرية وأسوان، حيث لا تستغرق الرحلة الجوية من القاهرة إلى لارناكا أكثر من تسعين دقيقة إلا أنه فى الحقيقة هناك مسافة أخرى من الحضارة والتقدم والرقى فى السلوك والنظافة تفصلنا عنها بسنوات، فرغم قلة مواردها الطبيعية خاصة فى مجال الطاقة وأيضا صغر المساحة التى لا تتعدى 9,250 كيلو متر مربع وعدد السكان لم يصل بعد إلى رقم تسعة آلاف نسمة فإن القبارصة قرروا أن يتحدوا صعوبة الطبيعة الممثلة فى جبالهم وينحتوا من تحتها أودية سياحية تجذب أعدادا كبيرة من السائحين ورغم الأزمة الاقتصادية التى عصفت بالاقتصاد القبرصى فى السنوات الأخيرة فإنى رأيت هناك أن العمل مستمر بعيدا عن الإحباط والبكاء على اللبن المسكوب وبصراحة هذا ما لفت انتباهى. الأسواق هى أول ما يلفت نظر الزائر الجديد، وأسواق قبرص التجارية تشهد ارتفاعا فى الأسعار وكسادا، إلا أن لقاءات الوفد الصحفى المصرى الذى كنت أحد أفراده فى الزيارة مع المسئولين أوضحت لى أن قبرص عائدة من كبوتها وان اختيار الاتحاد الأوروبى مدينة بافوس الجميلة لتكون عاصمة الثقافة لعام 2017 هو طوق النجاة لعودة الحياة للاقتصاد القبرصى وليس السياحة فقط، هذا ما أوضحه نائب عمدة مدينة بافوس ماكيس روسيس عندما التقيناه فى مقر حكم المدينة وقال إن هذا الحدث سيضمن للمدينة بشكل خاص وقبرص بشكل عام ضخ استثمارات تعادل 40 مليون يورو للمدينة التى تتطل على ساحل البحر المتوسط وتتمتع بشواطئ ومناظر طبيعية ساحرة، ورغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة فإن بافوس تجلب نحو مليون سائح سنويا. وأضاف نائب عمدة بافوس أنه من المنتظر أن يزيد عائد استثمارات السياحة عام 2017 ثمانية أضعاف وسيتم استثمار هذا المبلغ فى بناء المسارح والسينمات وترميم الآثار ودعم الأنشطة الثقافية والفنية. موعد آخر وفى لقاء آخر مع جورج ليبتوس رئيس الغرفة التجارية والسياحية القبرصية فضل المسئول القبرصى أن يبدأ حديثه عن الأزمة الاستثمارية التى تمر بنا فى مصر فقال إن مواجهة الأزمة الاقتصادية الراهنة تتوقف على توصل الحكومة المصرية إلى حلول عاجلة لتوفير الاستقرار السياسى الأمر الذى يؤدى لزيادة السياحة وجلب استثمارات أجنبية لتتحول مصر وتصبح المركز المالى الحقيقى للمنطقة عوضا عن بعض الدول الصغيرة التى تسعى لهذا. وكشف جورج أن المتغيرات التى شهدتها الساحة المصرية مؤخرا أدت إلى تأجيل استثمارات قبرصية كان مزمع استثمارها فى الإسكندرية بقيمة 2 مليار يورو وكان سيجرى استثمارها لإنشاء جامعة وغيرها من الاستثمارات العقارية بالإسكندرية، أما عن قبرص فعلق أن اختيار بافوس عاصمة الثقافة فى أوروبا لعام 2017 يعد دفعة قوية للاستثمار العقارى والسياحى وقد تم تشكيل لجنة من رجال الأعمال تعمل مع الحكومة لإنجاح الاستثمارات المتوقعة خلال هذه الفترة ومن المنتظر أن تكون عائدات هذه الاستثمارات طويلة المدى فاختيار مدينة بافوس لهذا اللقب سيجعلها قبلة لسائحى العالم إلى مدة طويلة. مذهل وعندما تناقشت مع ساركس إلكسندروا وهو أحد أكبر خبراء التسويق السياحى بقبرص قال لى إن حجم استثمارات المصريين فى قبرص شهد زيادة ملموسة وبلغ 10% من إجمالى الاستثمارات السياحية بمدينة بافوس السياحية بقبرص وأن ما حفز المصريين على الاستثمار هنا هو اتفاقية عدم الازدواج الضريبى كما أن قانون تملك الأجانب للعقارات والأراضى أسهم فى جذب راغبى الاستثمار العقارى لقبرص حيث يحصل الفرد على الإقامة الدائمة هو وأسرته حال ضخ مبلغ 300 ألف يورو كما يحصل المصرى على الجنسية القبرصية حال استثماره مبلغ 5 ملايين يورو على مدار 3 سنوات. وفى نفس اليوم كنت على موعد مع رئيس البرلمان القبرصى والذى كان يتولى رئاسة البلاد بالإنابة لسفر رئيس الجمهورية حينها وفى الواقع كنت أنتظر أن يخضع الوفد الصحفى وأنا من ضمنه للعديد من إجراءات التفتيش والتحضيرات قبل المقابلة ولكنى لم أجد أى شئ من هذا، وإلى حد أن الرجل دخل إلى مكان المقابلة وحده دون أى حراسة أو تكلف وجلس وأخذ يتبادل الحوار مع الصحفيين المصريين وأكد يانكس اوميرو رئيس البرلمان القبرصى على استمرار العلاقات الوطيدة بين البلدين واحترامه لرغبة الشعب المصرى فى تغيير الأوضاع إلى الأفضل، كما أننا دعمنا تحرك الشعب المصرى فكنا أول دولة ترسل وزير خارجيتها إلى مصر لينقل دعم الحكومة القبرصية لخيار الشعب المصرى فى 3 يوليو الماضى ورفضنا وصف ما يحدث فى مصر بالانقلاب بل أكد أنه ثورة شعبية حدثت فى 30 يونيو ودعمنا لمصر يأتى لأن مصر هى قلب الوطن العربى ولا يمكن استبدالها بأى كيان آخر فضلا عن أن العلاقات بين البلدين تاريخية وخاصة مع بداية حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر شهدت تطورًا ملحوظًا وحتى الآن وخلال الأيام القليلة القادمة سيكون هناك زيارة قريبة لوزير السياحة القبرصى إلى مصر لتنشيط التعاون بين الدولتين. وأشار أيضا يانكس اوميرو رئيس البرلمان إلى أن ما حدث فى مصر يبرهن أن على أنه لا سبيل إلا للمشاركة المجتمعية والديمقراطية ولا مكان للطائفية الدينية وهذا ما كان يقلقنا من أن تتحول القضية السياسية فى مصر إلى صراع دينى ولكنه لن يحدث ونتمنى أن تظل مصر هى من تتولى قيادة ديمقراطية فى المنطقة كما كانت فى السابق ونأمل فى استقرار الأوضاع السياسية ومستبعداً أن تشهد الساحة السياسية حربا طائفية خصوصا أن مصر ستظل دائماً المثل الأعلى للاستقرار السياسى والدينى على الساحة العربية وعن احتمالية ضخ استثمارات قبرصية فى مصر رغم ما تعانيه قبرص من أزمة اقتصادية، وأضاف يانكس نحن على استعداد لضخ أى استثمارات تساهم فى دعم الاقتصاد المصرى ونرغب فى أن يكون هناك تبادل استثمارى على اعلى مستوى ولكن كل هذا يلزمه استقرار الأوضاع فى مصر حتى تستطيع الدولة المصرية النهوض من جديد. قبل المغادرة فى آخر الرحلة وقبل مغادرتى مدينة بافوس الساحرة أسعدنى الحظ أن التقى بواحد من أكبر رجال الأعمال ليس فقط فى قبرص ولكن فى منطقة الشرق الأوسط أنه السيد مايكل ليبتوس والذى تجاوز عمره منتصف السبعينات وهذا الرجل بالأرقام يملك 80 بالمائة من مدينة بافوس بالتحديد وكنت أتوقع أن أرى نموذجا يشبه رجل الأعمال العربى أو حتى الأمريكى، فاحش الثراء متغطرس ومنفصل عن قضايا المجتمع فقط يمثل الرأسمالية المتوحشة ولكنه بدا على العكس مما توقعت تماما فقد دخل أثناء العشاء كأى شخص بسيط دون أى حراسات أو تشريفات وسكرتارية ومديرين أعمال ثم وقف فى منتصف المكان الذى نجلس فيه وحيا الحضور ثم جلس معنا وأخذ يبادرنا بالحديث وكأنه متعطش لأن يوصل للحضور رسالة معينة تضمنها خبرته فى الحياة وكان الحاضرون من جانبهم فى شدة الانتباه لسماع أسطورة النجاح الحية وبالفعل بدأ الملتى ملياردير يسرد لنا قصة الفشل قبل النجاح فقد ذاق ليبتوس طعم الهزيمة والإفلاس ثلاث مرات فى حياته وحاول فى بداية حياته الاستثمار فى مصر فجاء إلى القاهرةوالإسكندرية عدة مرات ولكن محاولاته أيضا باءت بالفشل ولم يستسلم وظل ينحت فى صخور قبرص واليونان حتى أصبح الآن من عمالقة الاستثمار العقارى فى الشرق الأوسط. على المستوى الشخصى أعجبتنى قصة النجاح هذه وظللت أستمع لخبرات الرجل وكأنه كان يلقن الحاضرين مفاتيح النجاح وبالنسبة له كان الإصرار وتحدى الفشل والمثابرة والبدء من جديد هذا الرجل عندما شاهدت استثماراته وحديث الناس عنه أدركت أنه لا يشبه رجال الأعمال الذين نعرفهم فى مصر ويستثمرون فى مجتمعات الأغنياء فقط فهذا الرجل وفر فى مدينة بافوس حياة لكل المستويات ومشروعاته تندمج مع المواطن العادى وتخدّم عليه وهذا ما كان يؤكد عليه دائما أثناء حديثه معنا ويؤكد أنه لا يستثمر أمواله فقط من أجل الأغنياء فجعل من مدينة بافوس القبرصية بلد الأحلام وساعدها للحصول على لقب عاصمة الثقافة فى أوروبا. المصريون وحاول الحضور من المصريين إقناع رجل الأعمال بالاستثمار فى مصر بعد أن أعرب عن حبه وعشقه لمصر ولكن إجابته ربما كانت صادمة للبعض وبالنسبة لى كانت مقنعة فهذا الرجل الحكيم لخص المشكلة وأعطانا الحل حين قال موجها الكلام لنا: انتم شعب عظيم لديكم أراض واسعة وبحار ونهر وعمالة ماهرة ورخيصة وتنتظرون أن تأتى المساعدة من الخارج عليكم أنتم أن تنقذوا أنفسكم بأنفسكم لا تعتمدوا على أحد ولا تنتظروا منحة أو شفقة من أى دولة.. اعملوا واستمروا فى طريق الاستقرار وسيهرول العالم خلفكم ساعيا للاستثمار لديكم. أكمل السيد ليبتوس حواره الممتع ورغم كبر سنة إلا أنه يتمتع بذاكرة حديدية وأخذ يلقننا من خبراته فى الحياة وبعدها انتهت الجلسة فقمت نحوه و صافحته وقلت له أنا فخور كونى تقابلت مع نموذج ناجح مثلك منحتنى طاقة ايجابية لاستكمال مشوارا الحياة خاصة أننى جئت إلى هنا محملا بالكثير من الإحباطات فنظر إلى مبتسما ووضع يده على كتفى وقال لى أنت صغير على أن يكون بداخلك كل هذا الإحباط، عليك استكمال الحياة بالعمل والجهد وإياك أن تستسلم، كافح وستصل إلى ما ترغب فالحياة معركة ويجب أن تكون مقاتلًا على نفس مستوى الحرب. انتهت الرحلة ولكن لم ينته تأثيرها فقبرص قبل خمسة عشر عاما كما عرفت لم تكن هكذا وهذا يعنى أن الدول ممكن أن تقفز حضاريا بشكل سريع ولكن السر فى الحقيقة هو فى الشعوب التى إذا رغبت فى النهوض ستنهض فهو قرار يجب أن تتخذه الشعوب قبل الحكام.