هذا الشاعر لم أستطع مقاومة الكتابة عنه، بعد أن قرأت سيرته وديوانه، أنه الأمير العربى الأصيل سليل قبيلة تغلب.. المعروفة بشهرة فرسانها وشعرائها ومنهم عمرو بن كلثوم الذى قتل الملك عمرو بن هند فى مقر حكمه! هو أبو فراس بن أبو العلاء سعيد بن حمدان أمير الموصل وأمه كانت رومية حسناء أسرها أبوه فى إحدى غزواته ضد الروم، وقد قتل أبوه وعمره ثلاث سنوات فقط وتكفل عمه الأمير سيف الدولة الحمدانى أمير حلب برعايته وتدريبه حتى عينه أميرا وعمره 16 سنة على مقاطعتى «منبج وحران» وتوابعهما كما تولى أستاذة ابن خالوية تعليمه وتثقيفه وتحيفظه الشعر القديم كما تكفل بكتابة قصة حياته وحفظ أشعاره بعد مماته. وقد كان شاعرنا أبو فراس «خليطا» من الفارس الشجاع المقدام الذى لا يهاب الموت، كما كان عزيز النفس يعتز بكرامته جدا، فضلا عن كونه شاعرا محبا رقيقا حين يتغزل فى محبوبته، فخورا حين يتذكر أمجاد قومه وحروبهم ضد الأعداء من الروم، حزينا مؤثرا عندما يعبر عن سنوات الأسر التى طالت ونسيان أهله له وعدم فديته غصبا أو عمدا. ومن منا لم يردد مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم «أراك عصى الدمع» والتى تكشف عن مدى حب الشاعر ووجده بمحبوبته ولكنه أيضا «لا يذاع له سر» فهو الأبى الشامخ عزيز النفس المحافظ على كرامته.. المعروف لدى البدو والحضر والأصدقاء والأعداء.. فكيف تنكره تلك الفاتنة التى أحبها.. وهى عليمة من هو الأمير العاشق! يقول أبو فراس: أراك عصى الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهى عليك ولا أمرُ نعم أنا مشتاق وعندى لوعة ولكن مثلى لا يذاع له سر وفيت وفى بعض الوفاء مذلة لفاتنة فى الحى شيمتها الغدرُ تسائلنى: «من أنت؟» وهى عليمة وهل بفتى مثلى على حاله نُكرُ؟ فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلك! ..قالت: أيهم؟ فهم كثرُ وقالت لقد أزى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر وأيقنت أن لا عز بعدى لعاشق وأن يدى مما علقت به صفر فعدت إلى حكم الزمان وحكمها لها الذنب لا تجزى به ولى العذر هذا هو الشاعر العاشق، أما الفارس الشجاع المقدام فاقرأ قوله: وإنى لجّرار لكل كتيبة معودة أن لا يخل بها النصر وإنى لنزال بكل مخوفة كثير إلى نزّالها النظر الشزر فأظمأ حتى ترتوى البيض والقنا وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر وعندما أدارت الدنيا له ظهرها وتجمع من حوله الأعداء وأوشك على الوقوع فى الأسر، نصحه أصحابه بالهرب، فرفض معلنا أنه لن يفعل ما يشينه كما فعل عمرو بن ربيعة عندما تخفى فى زى النساء هربا من قوم كانوا يتربصون به: وقال أصحابى الفرار أو الردى؟ فقلت: هى أمران أحلاهما مر ولكننى أمضى لما لا يعيبنى وحسبك من أمرين خيرهما الأسر هو الموت فاختر ما علا لك ذكره فلم يمت الإنسان ما حيى الذكر ولا خير فى دفع الردى بمذلة كما ردها يوما بسوءته عمرو واقرأ مواساته لنفسه ولحمامة وقفت بشباك أسره.. ما هذا الجمال؟ وما كل هذا الشعور بالكرامة وعزة النفس.. إنها أبيات قليلة.. ولكنها نالت شهرة كبيرة بعد أن غناها مطرب العراق الأشهر المرحوم ناظم الغزالى: أقول وقد ناحت بقربى حمامة أيا ياجارة هل تشعرين بحال؟ أيا ياجارة ما انصف الدهر بيننا تعالى أقاسمك الهموم تعال تعالى نرى روحا لدى ضعيفة تردد فى جسم يعذب بال أيضحك مأسور وتبكى طليقة ويسكت محزون، ويندب سال؟ لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعى فى الحوادث غال ولقد كانت مشكلة شاعرنا الفارس العاشق هو الطموح المتعجل.. حيث كان يشعر أنه لم يحصل على ما يستحقه بعد كل ما يذله من دفاع عن قومه وبلاده ضد الأعداء.. وهو ما أفصح عنه صراحة عندما قال: يصان مهرى لأمر لا أبوح به والدرع والرمح والصمصامة الخزم كما قال أيضا: تطالبنى بيض الصوارم والقنا بما وعدت جدى فى المخايل ولكن دهرا دافعتنى صروفه كما دافع الدين الغريم المماطل فلولا وفاؤه لابن عمه الذى رباه وأحسن وفادته لاستولى على الحكم، وهو ما حاوله فعلا بعد وفاة سيف الدولة، حيث دخل فى معارك عديدة مع ابنه.. ولكنه هزم وتوفى متأثرا بجروحه.. ولعل هذا الطموح الذى استشعره سيف الدولة سبب فى تركه فى الأسر لدى الروم لأكثر من أربع سنوات! لقد توفى أبو فراس بين يدى ابنته وهو يوصيها أن تحزن عليه وتنعيه وتتذكره: ابنتى لا تجزعى كل الأنام إلى ذهاب نوحى على بحسره من خلف سترك والحجاب قولى إذا ناديتنى وعييت عن رد الجواب زين الشباب أبو فرا س لم يمتع بالشباب!