لا تندهش إذا أخبرتك أن المعلم الأول وصاحب التأثير الكبير فى التكوين النفسى والقيمى للدكتور محمد البرادعى قائد انتفاضة مصر (ثورة 25 يناير 2011) هو البروفيسور اليهودى «توماس فرانك» الذى هرب وهو صبى مع أسرته من معتقلات النازى .. وهذا ليس كلامى ولكنه كلام كاتب أمريكى اسمه «مايكل دلاى» منشور فى جريدة «ديلى نيوز» الإليكترونية بتاريخ الأول من فبراير 2011. (1) وفجأة خلال الأيام الأخيرة خرج علينا كل المحللين السياسيين والاستراتيجيين وهواة الكلام ومحترفيه بنظرية المؤامرة التى كانوا يتهمون بها توفيق عكاشة، وآمنوا أن الشيطان الأكبر المعروف بأمريكا هو الذى يقف وراء كل الكوارث التى تحيق بنا ليس فى مصر فقط ولكن فى المنطقة العربية كلها، وأنها (أمريكا) الأمبراطورية الاستعمارية الصهيونية لديها مخطط لإسقاط مصر، أما سبب هذا الاكتشاف الرهيب المتأخر فهو موقف أمريكا من الإخوان وماحدث فى 30 يونيو وما بعده الذى يعتبرونه انقلابا وكذا الموقف من التعامل مع اعتصامى رابعة العدوية والنهضة. المثير للدهشة أن بعض من المهاجمين لأمريكا كان ومازال ينام فى حضن أمريكا الدافئ ويتمرغ فى نعيمها ويراها تملك مفاتيح الجنة والنار فى الدنيا على الأقل، وما موقفهم الأخير منها إلا موقف الربيب حين يخونه ربيبه وينظر إلى معشوق غيره، ولم يشذ أحد فى هذا الفريق إلا ثلاثة على الأكثر أذكر منهم اثنان موقفيهما معلن هما عمرو حمزاوى ومحمد البرادعى وأنا معنى هنا على وجه التحديد بالأخير على اعتبار أنه الأكثر تأثيرا وإثارة للجدل خاصة بعد توليه منصب نائب الرئيس فى الدولة المصرية (حتى ولو كانت الفترة انتقالية) ثم إعلانه للاستقالة من منصبه اعتراضا على الطريقة التى تعاملت بها الحكومة فى فض اعتصامى رابعة والنهضة، مع التنويه الضرورى إلى أن البرادعى قد يعود فى استقالته بعد كتابة هذا الكلام، وحتى لو تمسك بها فلا أظن أنه سوف يختفى من على المسرح بل الغالب أنه سوف يتولى مناصب أخرى فى المستقبل، وسوف يسعى لأن تكون هذه المناصب تنفيذية وذات تأثير على الداخل. أقصد أن البرادعى لعب دورا مؤثرا فى الحياة السياسية وشغل مساحة ليست صغيرة فى اهتمامات المصريين خلال السنوات الثلاث الأخيرة لكن تم التعامل الإعلامى مع هذه الشخصية بتسطيح مخل، ورؤية حدية وصلت إلى تصويره إما عميل أو بطل قومى، شيطان أو نبى الزمن القادم دون بذل مجهود يذكر أو محاولة جادة تقودنا لفهم أكثر عمقا لشخصية البرادعى لنستطيع تفسير دوافعه السلوكية ومن ثم تفسير أفعاله. (2) والكاتب الراحل محمود عباس العقاد كان يبحث عن مفتاح للشخصيات التى تناولها بالتحليل فى عبقرياته الشهيرة، وكل شخص أو شخصية - حسب العقاد - له مفتاح، وفى مقالة «مايكل دلاى» التى أشرت إليها ونقلت عنها فى المقدمة يمكنك أن تجد مفتاح البرادعى. وفى التاريخ الذى نشرت فيه المقال (أول فبراير 2011) كان نجم البرادعى فى السماء، فى مصر، وفى الغرب كان هناك رهان على الدور المرشح للعبه فى القاهرة، أما هذا المقال المشار إليه فقد كان موجها لجمهور بعينه فى أمريكا وأوروبا كرسالة تأكيد وتطمين، وكعادة الكتّاب الغربيين يبدأ المقال بخطاف (هوك) يجذب به الكاتب انتباه القارئ فيقول له: «لا تندهش إذا أخبرتك أن المعلم الأول وصاحب التأثير الكبير فى التكوين النفسى والقيمى للدكتور محمد البرادعى قائد انتفاضة مصر (ثورة 25 يناير 2011) هو البروفيسور اليهودى (توماس فرانك) الذى هرب وهو صبى مع أسرته من معتقلات النازى». ويمضى المقال يحكى قصة الأستاذ اليهودى أكثر مما يركز على التلميذ، «توماس فرانك» الذى هرب فى صباه من معسكرات النازى بصحبة عائلته إلى برلين ثم أمريكا التى نشأ وترعرع فيها ليصبح فيما بعد الباحث الشهير البارز فى القانون الدولى الذى يقدم مشورته للدول حديثة الولادة، أو المتحررة حديثا من الاستعمار، حيث ساهم فرانك فى صياغة دستور تنزانيا، ومثّل البوسنة والهرسك فى المحكمة الدولية فى لاهاى ضد صربيا المتهمة بجرائم الأبادة الجماعية (يهودى يقف ضد القتل الجماعى للمسلمين) والتعليق ما بين الأقواس لكاتب المقال الغربى، وهو تعليق مؤثر لا شك وردى عليه: «وماذا ينفع دفاع المحامى عن قتيل شبع موتا.. هل يمكن أن يعيد له الحياة ؟». (3) وفى وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضى كان محمد البرادعى الشاب القادم من القاهرة فى نيويورك يتتلمذ على يد الأستاذ فرانك، وكان معروفا لدى الأستاذ أن والد البرادعى الذى تولى رئاسة نقابة المحامين المصرية على خلاف دائم مع نظام الرئيس عبدالناصر القمعى (الوصف للكاتب الغربى). وأصبح فرانك دليلا يقود البرادعى لفهم الواقع واتساع رؤية الأخير للأمور، أو كما قال البرادعى فيما بعد: « كان لفرانك حقا دور فعال فى أن يجعلنى أفهم ما أحتاجه لأن أنظر إلى الصورة العالمية لأننا نحتاج دائما ألا نأخذ أى شىء كأمر مسلم به ولكن نعتمد التفكير الناقد قبل صياغة آرائنا». وأضاف البرادعى كان فرانك له دور أساسى فى تشكيل آرائى بشأن الكيفية التى سوف أواصل بها مسيرتى فى المستقبل: ولم يقتصر دور فرانك فى حياة البرادعى على الجانب المتعلق بالبناء الفكرى والقيمى فقط ولكنه ساعده فى مشواره الوظيفى، فهو الذى أوصله للعمل فى الأممالمتحدة، واعتمد البرادعى على نفسه بعد ذلك فى الصعود الوظيفى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفى عام 2009 وبينما كان فرانك عائدا من مهمة فى مقدونيا التى تسعى للانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبى، هبطت طائرته فى فيينا وألتقى البرادعى وزوجته على العشاء وحضر هذا اللقاء شريك لفرانك يدعى مارتن دالى وهو الذى نقل تفاصيل هذا اللقاء وما دار فيه من حديث عن نية البرادعى فى الترشح لرئاسة مصر، حيث سيذهب برجليه إلى القاهرة الخطرة دون أن يبدو عليه القلق. «كان البرادعى يقاسم معلمه اليهودى حب الحرية فشكرا لمدينة نيويورك سيدة الحرية»، هذا ما انتهى إليه كاتب المقال الغربى الذى قال أيضا فى مقاله أن معلم البرادعى اليهودى كان شاذا جنسيا لكنه تزوج قبل وفاته بعامين.. ولا أقصد من إيراد هذا إلا الإشارة لبعض من مفاهيم الحرية التى يتبناها الغرب ويعتبرها حقا من حقوق الإنسان. (4) هذا هو مفتاح البرادعى.. هذه هى قيم البرادعى.. هذا هو فهمه للحرية، وسبب هجومه على من ينكر المحرقة (الهولوكست) كما يروج لها اليهود وليس على حقيقتها، وهذا هو سبب تبنى البرادعى للأديان والعقائد المؤشحة لتكون السند الروحى للعولمة وأبرزها البوذية، أما مساندة البرادعى للإخوان فى الأزمة الأخيرة فسببها ليس سواد عيون الإخوان ولكن لأن الموقف الأمريكى الموحى له بهذا يريد لمخطط التحول الديموقراطى أن يمضى إلى نهايته وإقصاء الأخوان يمكن أن يعطل هذا بالإضافة إلى أن استمرار صراعهم على السلطة يضمن السيناريو البديل أقصد: «الفوضى».