«اللهم ألّف بين قلوب إخوتنا فى مصر واجمع كلمتهم وأحقن دماءهم».. بهذه الكلمات انطلق دعاء إمام المسجد الحرام بمكة المكرمة.. وشعرت من خلال نبرة صوته بمدى الألم والحسرة على ما يجرى فى مصر المحروسة.. كنانة الله فى أرضه. وأحسست أن الإمام يريد بهذا الدعاء المخلص أن تنجو مصر من أزمتها الطاحنة وأن تبدأ الخروج من هذا النفق المظلم الطويل وألا تنزلق إلى ما هوت إليه بلاد أخرى وهذا لن يحدث بمشيئة الله. و لعل قراء أكتوبر يتذكرون أغلفتنا على مدى الأسابيع الماضية وآخرها كان بعنوان «دماء المصريين خط أحمر». وقد حذرت فى لقاء تلفزيونى قبل 30 يونيو مما هوت إليه البلاد.. وطالبت بتحرك فورى قائلاً يجب أن نتحرك جميعاً الآن.. وليس غداً وكررت هذه الكلمة على الهواء ثلاث مرات.. لإحساسى بمدى خطورة الموقف..بل إننى تنبأت بما حدث بالنص وقلت لا أتمنى أن يحدث هذا السيناريو الدموى.. ولكنه حدث للأسف الشديد.. ويجب أن نسارع بإجراءات عملية واسعة لاحتوائه وعدم تصعيده. ومن المشاهد المضيئة وسط هذا الزخم السياسى والإعلامي الحاد والمنحاز.. انتشار موائد الرحمن فى الميادين التى جمعت الثوار فى 25 يناير.. ثم مزقتهم الصراعات والمصالح والأهواء بعد ذلك على مذبح السفالة الأنيقة! نريد أن نجتمع - خاصة شباب الثورة على هذه الموائد - وأن تتبادل وفود الميادين.. من رابعة إلى التحرير وكل المحافظات دعوات الإفطار.. نعم إنها مهمة صعبة.. ولكن لنبدأ.. وخيرهما الذى يبدأ بالسلام.. وبمائدة الرحمن.. بل إننى أكاد أحلق بخيالى فأحلم بصلاة التراويح تجمع الفرقاء فى الميادين. إن دعوة التسامح التى نطلقها اليوم يجب أن تبدأ بصفاء النفوس.. فالنفوس محتقنة وحافلة بالمرارات والضغائن والأحقاد.. بل والاتهامات بالخيانة والتكفير وآثار الدماء التى سالت على أرض مصر الطاهرة. نريد أن تتطهر النفوس من هذه الآثار الخطيرة التى تجذرت لدى كل الفرقاء.. لدرجة يصعب تجاوزها.. ولكنها مهمة ليست مستحيلة. إن النفس أمارة بالسوء.. والواقع المرير يزيدها سوءاً ومرارة. ولكننا على ثقة بأن المصريين لديهم نفس طيبة راضية مطمئنة.. سوف تنتصر فى القريب العاجل على النفس الأمارة بالسوء. ومن مزايا المبادرة بالتسامح والعفو عند المقدرة وبعد الخطأ أنه يؤدى إلى بهجة القلوب.. فعندما أعفو وأصفح عن المخطئ.. فسوف يرتاح القلب وتسعد الروح. لذا.. يجب أن نبدأ بالعفو ثم النسيان.. ونفتح صفحة جديدة لكل أبناء مصر. ومن المؤكد أن التسامح وصفاء النفوس سوف ينعكس على الأبدان المكلومة والمصدومة. وكما يقول الأطباء فإن علاج القلب والروح ينعكس إيجاباً على صحة البدن والحالة العضوية للإنسان. بمعنى آخر.. فإن الحسابات البيولوجية تتأثر بالحالة النفسية.. ونحن نتطلع إلى راحة النفوس وشفاء الأبدان. من مزايا التسامح أيضاً أنه يعطينا الفرصة لعمل الخير.. لكل البشر.. دون استثناء أو تمييز «وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجراً» صدق الله العظيم.. وأهل مصر هم أهل الخير ومطبوعون على عمل الخير. كما أن رمضان يمثل أعظم حافز لنا لفعل الخيرات وهجران الشرور والمنكرات.. بما فيها المنكرات السياسية!. وإذا تقدم أهل الخير فسوف يتراجع صناع الشر.. هذه نظرية طبيعية ومنطقية. ويجب ألا نعطى فرصة لهؤلاء الأشرار كى يتقدموا ويكسبوا أرضاً أو يزوروا وعينا.. أو يكسروا إرادتنا.. أو يغتالوا عقولنا. كل شىء يمكن أن يحدث إلا اغتيال العقول.. وكسر الإرادات. ونحن على ثقة بأن صناع الخير من أهل مصر هم الأغلبية الساحقة التى سوف تسود.. بمشيئة الله. *** وبعد التسامح والغفران يجب أن نبدأ المرحلة العملية البراجماتية.. مرحلة التصالح التى تتطلب الكثير من الشروط والأسباب حتى تبدأ وتستمر وتنجح. أول هذه الشروط إنكار الذات «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» فمن أسباب هذه الأزمة الخطيرة التى نعيشها ونكتوى بنيرانها الصراع على المصالح الدنيوية الزائلة.. الكل يسعى إلى السلطة والمنصب والمكتب والمال والجاه والنفوذ بأية وسيلة وبأى ثمن.. حتى لو كان الثمن هو الجائزة الكبرى (مصر). نعم أن البعض يُعلى مصلحته الخاصة الضيقة على مصلحة الوطن ولا ينظر إلى الآثار المدمرة لهذه الرؤية القاصرة.. على المدى القريب والبعيد معًا. فمن مِن هؤلاء جميعًا لديه استعداد لإنكار الذات والتخلى عن صراع السلطة والسعى نحو مصلحة الوطن؟! أظن أنهم قليلون جدًا جدًا..وأظن أنهم سبب فى هذه الكارثة التى نشهدها الآن. بعد إنكار الذات وحتى تنجح المصالحة - يجب على كل القوى والجماعات والأحزاب والشخصيات والمؤسسات إعلاء مصلحة الوطن ووضعها فوق كل اعتبار.. وقبل أى حسابات خاصة.. ومصالح الوطن واضحة ومحددة.. أولها الحفاظ على الأمن القومى والسعى لإخراج الاقتصاد من عثرته العميقة والخطيرة معًا.. ومن مصلحة الوطن أيضًا رأب هذا الصدع الخطير الذى مزقنا إلى فرق وشيع تتحارب عبر وسائل الإعلام وفى كل مكان.. حتى كدنا نفقد الأمل فى الأمن داخل البيوت وفى الشوارع ومواقع العمل. ومصالح الوطن واضحة أيها السادة ولا نحتاج إلى اجتهاد لتحديدها والبدء فورًا بتحقيقها. ومن أهم هذه المصالح نبذ العنف وتجريم الاقتتال وكل أشكال التحريض عليهما.. أيًا كان من يطلقها أو يستخدمها أو يبررها أو يمررها. والمصرى بطبعه وتاريخه إنسان مسالم وديع هادئ الطباع.. وما طرأ علينا خلال السنوات الأخيرة هو سلوك دخيل وغريب ومريب وقد جاء من خلال وسائل الإعلام وبعض الأفلام الدموية ومشاهدة النت والدش الذى نقل إلينا «بلاوى» العالم من كل مكان.. رغم أنه حافل بالإيجابيات. ولكننا ننتقى منه الأسوأ.. الذى يضرنا ولا ينفعنا. وإذا كنا نسعى جادين أن نسير فى اتجاه التصالح والمصالحة الحقيقية.. فيجب أن نجمع كل الأطراف والأحزاب والقوى السياسية دون استثناء (المعارضة قبل المؤيدة) وأن نوفر لها المناخ المناسب والضمانات الكافية للحوار والمصالحة الجادة فالاستثناء والاقصاء يضر المؤيدين قبل المعارضين ويصب ضد مصلحة مصر.. بل إنه يخدم الأعداء ويقدم لهم «الجائزة الكبرى».. على طبق من ذهب. واحترام حقوق الإنسان والقانون والدستور.. يجب أن يكون راسخًا واضحًا لدى الجميع. فلا يمكن أن تتجزأ هذه الحقوق أو تطبق بمعايير مختلفة على طرف دون آخر. حقوقنا تنبع من الالتزام بالدستور والقانون وتطبيقها على الجميع.. دون استثناء. نعم نحن نتطلع لمصالحة حقيقية وجادة وشاملة.. ولكن هذا يحتاج إلى إعادة بناء جسور الثقة المفقودة.. يحتاج إلى احتضان أبناء الوطن جميعاً.. هذه مصلحة مصر ومسئولية تاريخية سوف نحاسب عليها أمام التاريخ.. وقبل ذلك وبعده أمام الله.