يمكن أن نقول - دون احتراس أو مبالغة - إن فيلم «Lincoln» الذى أخرجه «ستيفن سبيلبرج»، وقام ببطولته «دانييل داى لويسى» هو أحد أكثر الأفلام «أمريكية» فى السنوات الأخيرة، بمعنى أنه فيلم بالأساس عن القيم التى يعتبرونها من ثوابت الحياة الأمريكية، والتى طالما قدمتها الأفلام الهوليودية مهما كانت موضوعاتها أو أنواعها، الفيلم عن شخصية أحد أهم رؤساء أمريكا، ولكنه فى حقيقته عن تلك القيم التى دافع عنها حتى الرمق الأخير. كتب السيناريو «تونى كوشنر» عن كتاب أصدرته «دوريس كيرنره جودويه» بعنوان «فريق من المنافسين: العبقرية السياسية لدى إبراهام لينكولن»، وبينما تكلف الفيلم 65 مليون دولار، فإنه حقق نجاحًا كبيرًا فى شباك التذاكر، وحصد 235 مليون دولار، يمكن أن نرجع هذا النجاح ليس فقط إلى اتقان الصنعة فى كل عناصر الفيلم، ولكن أيضًا لأن السيناريو يكاد يلخّص تلك القيم المتكررة فى أفلام هوليود دافع لينكولن عن فكرة تحرير العبيد فى إطار دفاعه وإيمانه بفكرة المساواة والفرص المتساوية التى تشكل بدورها جوهر فكرة «الحلم الأمريكى»، واستخدم لينكولن فى الفيلم مريجًا معقدًا بين السياسة والحرب، والأفكار المثاليّة القادمة مباشرة من تعاليم السماء الدينية، والأفكار العملية البراجمائية التى تربط الأفكار وقيمتها بنتائجها الواقعية، والتى تسمح بها من التحايل والالتفاف لتحقيق الأفكار على أرض الواقع، ويدافع الفيلم عن فكرة تماسك الأسرة قد لا تكون مثالية، ولكنها يجب أن تستمر، كما يقول إن التاريخ يصنعه شخص واحدا أو خفته من الأشخاص المؤمنين بأفكارهم، وكلها أفكار فى صميم الإطار العام الذى دافعت عنه أفلام هوليود، والقادم مباشرة، كما يطلقون عليه القيم الأمريكية التى لا يغيب عن الفيلم فى النهاية أن يعتبرها رسالة يجب نشرها فى العالم كله. الفترة الزمنية لأحداث الفيلم هى الشهور الأربعة الأخيرة من حياة «إبراهام لينكولن»، من يناير عام 1865 حيث قرر أن يطرح للتصويت فى مجلس النواب مشروعًا للتعديل الثالث عشر للدستور الذى يقضى بإلغاء الرق والعبودية وصولًا إلى أبريل حيث يتم اغتيال لينكولن فى أحد المسارح، وتمثل هذه الشهور الأربعة لحظات تاريخية فى حياة أمريكا حيث شهدت القضاء على الرق، وانتهاء الحرب الأهلية الأمريكية الشرشة، بعد أن حاولت 11 ولاية أمريكية الانفصال عن الاتحاد. نعرف منذ البداية أن لينكولن، قام بتقديم التعديل الدستورى من قبل، ولكن تم رفضه، ومع ذلك فهو مصمم على القضاء على العبودية لأنه لا يتصور أبدًا الأمة منقسمة بين الأحرار والعبيد، يحاول «لينكولن» المنتمى إلى الحزب الجمهورى تمرير التعديل بدعوى أنه سيؤدى إلى انهاء الحرب مع الجنوب، ولكنه - وبالورقة والقلم - يكتشف مع مساعديه، ومنهم «وليام سيوارد»، أنه فى حاجة لاستكمال 20 نائبا إضافيًا حتى يّمر التعديل، والدراما بأكملها تدور حول معاناة «لينكولن» لتحقيق هدفه فى تمرر التعديل مثلما يقف فى مواجهته بعض أعضاء الحزب الجمهورى الأكثر محافظة، وبعض نواب الحزب الديمقراطى وعلى رأسهم ممثل نيويورك «جورج وود»، كما أن زوجة «لينكولن» التى تلعب دورها الرائعة سالى فيلز ترفض التعديل، وفى ذاكرتها محاولة اغتيال سابقة فاشلة لزوجها، كما أنها لم تنس مأساتها العائلية عندما فقدت ابنا لها عرض التيفود، ومن ناحية ثالثة ترفض الزوجة «مولسى» أن يتم إرسال ابنها الأكبر «روبرت» إلى الحرب، ورغم إصرار الشاب على ذلك، إلاّ أن لينكولن الأب ينضم إلى زوجته فى الضغط على ابنه، ثم سرعان ما يستسلم لاختيار ابنه، ولحقه أيضًا فى ممارسة حريته، فى خلفية كل هذه التفاصيل، تستمر معارك الحرب الأهلية الأمريكية فى أيامها الأخيرة، ويدير «لينكولن» الحرب بنفس القوة والحيلة التى يدير بها معركته لتمرير التعديل فى مجلس النواب، ويوافق على القصف الشرس للميناء الأخير الذى يدعم ثوار الجنوب. يمتلك «إبراهام لينكولن» أفكارًا مثالية، ولكن الفيلم يقول إن الرجل الذى عمل محاميًا قبل أن يصبح رئيسًا كان يعترف بأن هذه الأفكار المثالية عن العدل والمساواة والحرية لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع إلا بكثير من التحايل واللف والدوران، ولذلك يقوم وزير خارجيته «سيوارد» بتكوين فريق مهمته استماله النواب المترددين، لكى يصبحوا فى صف المصّوتين على التعديل، ويشير الفيلم صراحة إلى وعود للموافقين منهم باختيارهم فى وظائف فيدرالية كنوع من الرشوة الصريحة، بعد فترة سيشارك لينكولن بنفسه فى اقناع بعض المترددين، ومن ناحية أخرى، يتحايل «لينكولن» على الذين يحاولون إنهاء الحرب حتى لا يتم اقرار التعديل، وفى أحد أقوى مشاهد الفيلم، وهو مشهد التصويت النهائى على التعديل، يتلاعب لينكولن بالألفاظ، ويكتب ورقة ينفى فيها علمه بوجود وفد للتفاوض من ثوار الجنوب فى واشنطن، وكان النواب الديمقراطيون قد طلبوا تأجيل التصويت حتى يتم معرفة نتائج التفاوض مع هذا الوفد، وفى النهاية ينجح لينكولن فى تمرير التعديل التاريخى بفارق صوتين فقط، ورغم ذلك لا تتوقف الحرب، يستمر الضغط العسكرى حتى يستسلم الجنوبيون، أو يعلن لينكولن التسامح والفرق من بعد انتهاء الحرب، نراه يتحدث عن منح السود حق التصويت، تشعر الزوجة مولى بالرضا بعد الغضب، يبدو «لينكولن» مثل قديس يحلم بالحج إلى القدس، يتم إغتياله فى أحد المسارح، ولكن الفيلم ينتهى بخطبة «لينكولن» فى بداية ولايته الثانية عام 1865، يتحدث لينكولن عن وطنه الذى خرج إلى العالم لينشر السلام الدائم والحرية والمساواة. نجح سبيلبرج فى تقديم فيلم كبير لا يعيبه سوى بعض التعديل (150 دقيقة)، كان من الأفضل اختزال بعض المشاهد أو تكثيفها، ولكن هناك مشاهد بأكملها لا تنسى مثل مواجهات لينكولن مع زوجته ومع ابنه، ولحظات اتخاذه للقرارات الكبرى مثل التفاوض مع الجنوبين، ساهمت صورة «يانوس كامنيسكى» فى إخفاء تلك الهالة المقدسة حول «لينكولن» الذى لعب دوره يراعة «دانييل داى لويسى»، كما قدمت سالى قبله دور الزوجة باقتدار، وتميز أيضًا «تومى لى جونز» فى دور النائب ستيفنز عدو الرق والعبودية.