فى صحيفة دولة المدينةالمنورة دستور دولة النبوة الذى وضع سنة 622م - أى قبل أربعة عشر قرنا - نجد العديد من المبادئ الاجتماعية والسياسية التى يحتاج العقل المسلم المعاصر أن يتأملها وأن يستفيد منها، رغم القرون التى تفصل بيننا وبين ذلك الزمان. ففى هذا الدستور تقنين لخروج الإنسان من إطار «القبيلة والقبلية» إلى رحاب الدولة والأمة، فبعد أن كانت القبيلة هى «الأمة والدولة» غدت لبنة فى كيان الدولة الجديدة والأمة الوليدة والرعية السياسية التى أقامت بناءها الاجتماعى على أساس هذا الدستور. وقبل هذا الدستور ودولته كانت شخصية الفرد ذائبة فى كيان القبيلة، فجاء هذا الدستور ليقنن لطور جديد فى تطور الإنسان العربى، «ففروض الكفاية» - الاجتماعية - جعلها الإسلام على «الأمة» و«فروض العين» الفردية أو جبها على الفرد.. وبدلا من «القبيلة» - التى سعى الإسلام إلى تذويبها فى الأمة - برزت ذاتية الفرد ومسئوليه.. وبعد أن كانت «القبلية» تلحق إثم «الحليف» بحليفه، جاء هذا التطور الذى قننه هذا الدستور، بالنص على «أنه لا يأثم امرؤ بحليفه»، وكذلك الحال مع «الجار» و«أن الجار كالنفس، غير مضار ولا آثم».. وبذلك، برزت فى هذا الدستور ذاتية الفرد المسئول، المكلف.. ونص الدستور على أنه «لا يكسب كاسب إلا على نفسه». ولقد استن هذا الدستور سنن «التكافل» بين رعية الأمة وجماعتها فى مختلف الميادين، سواء كانت تلك الميادين مادية أو معنوية.. فالأمة متكافلة ومتضامنة فى «الحق» (وأن النصر للمظلوم).. وهى متكافلة ومتضامنة فى المساواة القانونية (ذمة الله واحدة.. والمؤمنون يجير عليهم أدناهم).. الأمر الذى يعنى رفض «الطبقية» الجاهلية، عرقية كانت أو اجتماعية.. وهذه الأمة متكافلة متضامنة - كذلك - فى المعاش والأموال، فهى مع (المفرح) - أى المثقل بالدين - حتى يتحرر من الدين الذى يثقل كاهله. ورغم أن «الحاكم» للدولة كان النبى - صلى الله عليه وسلم - فعليه ينزل وحى السماء بالقرآن الكريم - أى أنه قد جمع «الولاية الزمنية» إلى «النبوة والرسالة»، إلا أن هذه الدولة لم تكن «دولة دينية» بالمعنى الذى عرفته مجتمعات غير إسلامية، وفلسفات غير إسلامية.. فهذا الدستور قد «تميز» عن القرآن وإن لم يخالف روحه ومبادئه و«رعية» هذه الدولة لم تقف عند «الجماعة - الأمة - المؤمنة»، بل كانت «رعية سياسية»، اتخذت من المعيار السياسى والإطار «السياسى» ميزانا حددت وميزت به الرعية عن الأغيار.. فهى قد شملت إلى جانب الجماعة «المؤمنة» بالإسلام: سكان يثرب - المدينة، ومن حالفهم ووالاهم ولحق بهم، بمن فيهم من العرب الذين تهودوا، ومن اليهود العبرانيين الذين حالفوا الأوس والخزرج.. وكذلك «الأعراب» الذين «أسلموا» ولما يدخل «الإيمان» بعد إلى قلوبهم.. وأيضاً الذين «نافقوا» النبى والمؤمنين، فأظهروا الإسلام، واستمروا على كراهة الإيمان بالدين الجديد. ولقد استخدم هذا الدستور مصطلح «الأمة» - بمعنى الرعية السياسية - المتعددة الديانات (فالمؤمنون أمة واحدة من دون الناس.. واليهود أمة مع المؤمنين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).. فقر التسوية فى المواطنة لحقوقها وواجباتها، التى تحكمها مرجعية الإسلام.