بعد كل ما شاهدناه من وقائع عبثية اجتاحت المشهد السياسى المصرى فى الأيام الأخيرة أصبحنا على يقين جازم وبما لا يدع مجالا لأى شك أن مصطلح الطرف الثالث أصبح مفرغا من مضمونه وذلك لسبب معقول ومنطقى وهو أننا جميعا نشكل ما أطلق عليه الطرف الثالث أو اللهو الخفى، والفارق الأوحد أن هذا اللهو أصبح علنيا وواضحا وضوح الشمس ولم يعد مقصورا على فئة مطلسمة يجتهد المحللون السياسيون فى تحديدها وفق هواهم ومعتقداتهم السياسية والنتيجة المنتظرة هى أن الطرف الثالث معنى بوهيمى مستباح يمكن أن يلتصق بأى مواطن أو مجموعة أو حزب وغير ذلك من التصنيفات التى يندرج تحت لوائها كل طوائف الشعب المصرى. والحقيقة التى يمكن أن نستخلصها من حالة التخبط والارتباك التى سادت المجتمع المصرى والتى كادت تنهى كل الآثار الإيجابية التى أحدثتها ثورة يناير بما فى ذلك أهدافها المعلنة فى شعارها «عيش - حرية - عدالة اجتماعية - كرامة إنسانية» والذى يؤكد ذلك أن هناك معوقات تصادف تحقيق هذه الأهداف بشكل قاطع ويجعل من تحقيقها حلما مستحيلا فى مثل هذه الظروف السياسية الملتبسة.. وإن شئنا تحديدا نكتشف من خلاله من هو الطرف الثالث أو ذلك اللهو الخفى الذى يعبث بمقدرات هذا الوطن فإننا سوف نصاب بحيرة يستحيل معها تحقيقه بشكل يجيب إجابة شافية عن هذا التساؤل المبهم.. ومن استقرائنا للأحداث الجارية والتى قد تصيب ثورتنا فى مقتل - لا قدر الله - نستشف بشكل واقعى لا لبس فيه ولا مداهنة أن كلنا أصبحنا بلا استثناء ذلك الطرف الثالث ولا نستثنى أحدا من ذلك أو فئة بعينها.. موالاة ومعارضة وقوى سياسية وأحزابا وحتى من يطلق عليهم حزب «الكنبة» وهم السلبيون الذين يشكلون - بكل الأسف - غالبية الشعب المصرى الذى أجهدته المعاناة وأفقدته القدرة على اتخاذ موقف محدد حيال قضايا وطنهم.. وقد كان بإمكان هذه الفئة السلبية أن تكون مؤثرة بشكل فاعل فى مجريات السياسة المصرية إذا ما اتخذت موقفا إيجابيا يمكن أن يحقق الإرادة الشعبية عبر صناديق الانتخاب وتأتى حتما بما يريده الشعب بكامل طوائفه وأطيافه. وهنا سوف يصمت المزايدون أمام هذه الإرادة ومن ثم يتحقق الأمل الذى بات مستحيلا وأصبح بعيد المنال وهو الاستقرار الذى تفتقده مصر فى هذه الأيام وما يستتبعه من إهدار لموارد الدولة كنتيجة حتمية لتوقف عجلة الإنتاج لمدة تجاوزت العامين. *** وإذا كان موقف الفئة السلبية مخزيا فإن موقف القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها ليبرالية كانت أو إسلامية أكثر خزيا حيث يلعب كل منهم على أوتار مصلحته الشخصية مغفلا بذلك مصلحة الوطن التى تستوجب فى هذه الظروف الدقيقة التى تمر بها البلاد تجردا يعلى هذه المصلحة فوق كل رغبة خاصة فى الاستحواذ أو تحقيق هدف رخيص على حساب مصر وأهداف ثورتها والتى دفعت ثمنا غاليا من أرواح أبنائها. ومن أبرز هذه القوى السياسية التى اتخذت موقفا يثير العجب والدهشة معاً جبهة الإنقاذ الوطنى بما تضمه من أحزاب رفضت معظمها الحوار الوطنى الذى دعت إليه مؤسسة الرئاسة فى الأسبوع الماضى وكان حزب الدستور الذى يترأسه الدكتور محمد البرادعى أكثر الأحزاب مجاهرة برفض هذا الحوار مطالبا بضمانات مسبقة وهنا يبرز تساؤل مهم.. كيف يكون الحوار حوارا بضمانات تفقده صفته الأساسية؟ وهل لا يعى البرادعى أن الحوار يعنى طرح وجهات نظر متباينة يتفق عليها من خلال نقاط التقاء يمكن أن تصل إلى نتيجة إيجابية منتظرة تقى المجتمع مما يحدث فيه الآن من احتقان يهدد أمن مصر القومى؟! *** أما المفاجأة التى أذهلت الكثيرين فهى موقف الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وحزبه «مصر القوية» من الحوار والذى ضاعف من هذا الذهول أن أبو الفتوح قد تقدم هو الآخر باقتراحات لمؤسسة الرئاسة طالبا إبداء الرأى بشأنها كشرط أساسى للمشاركة، وهنا أيضاً نجد تساؤلاً يفرض نفسه وهو لماذا لم يتقدم حزب مصر القوية بما شاء من مقترحات على مائدة الحوار ويكون من حقه آنذاك رفض أو قبول ما يطرح من خلاله؟ وإذا كانت هناك أحزاب قد قبلت المشاركة فى هذا الحوار كحزب النور فإن موقفه اقترن بموافقته على مشاركته فى الانتخابات البرلمانية القادمة أملا فى أن تستقر الأوضاع بتشكيل حكومة وطنية تخلف حكومة الدكتور هشام قنديل التى لاقت كثيرا من انتقادات القوى السياسية على اختلاف توجهاتها.. وهنا نستشف معنى قد يبدو غامضا وهو أن الأحزاب الرافضة للحوار والمشاركة فى الانتخابات البرلمانية يهمها استمرار الأوضاع السياسية المضطربة وكذلك استبعاد أية خطوة نحو الاستقرار بما يجعلنا نصدّق ما يشاع فى الوسط السياسى من أن القلاقل والتجاوزات التى تحدث على الساحة السياسية المصرية فى المحافظات المختلفة هى إن لم تكن من تدبير الأحزاب الرافضة فهى بتشجيع منها وما يحدث الآن من عصيان مدنى فى محافظات بورسعيد والغربية والدقهلية والمحاولات اليائسة لشيوع هذا العصيان المدنى فى محافظات كبرى كالجيزة والقاهرة والإسكندرية دليل قاطع على أن مدبرى هذه الاضطرابات ليسوا طرفا ثالثاً كما قيل فى السابق من أنهم أذناب الحزب الوطنى المنحل ولكنهم قوى سياسية فاعلة الآن فى المسرح السياسى المصرى ينفذون ما يريده الفلول سواء كان ذلك عن وعى وقصد أو عن غباء سياسى أو تلاقت بينهما الأطماع والأهداف الخبيثة والمضار الأوحد منها هو مصر التى يدعى هؤلاء الولاء والإخلاص لها كذبا وزورا وبهتانا. *** إن الدعوة لمقاطعة الانتخابات هى دعوة باطلة تعوق ما نأمله من اكتمال مسيرة الديمقراطية وليست كما يدعى البرادعى تدعيما للديمقراطية فهو بذلك أيقن حقيقة كانت عنه غائبة وهى افتقاده وحزبه الحضور فى الشارع المصرى ولذلك سوف تأتى نتائج الانتخابات على عكس ما يرجو وبذلك سوف تزول عن حزبه «ورقة التوت» وحتى لا يكتشف المراقبون موقعه الحقيقى على الساحة السياسية.. ويماثله فى ذلك معظم الأحزاب الورقية التى تلبس رداء البطولة الزائفة وقد يقول قائل إن هذا الموقف السياسى الملتبس لا تتحمل تبعته القوى المعارضة فقط، وإنما الموالاة أيضا تتقاسم الأخطاء فى هذا الصدد ونحن بدورنا نقر ذلك ولكن الأجواء المضطربة والتى يشوبها التربص والترصد لكل ما تفعله الحكومة يكمن داخله ما تستشعره جموع الشعب المصرى من عجز الحكومة عن تلبية طموحاتها بعد طول معاناة منذ قيام الثورة دون بارقة أمل فى حل أزماتهم الاقتصادية. *** إن ما يحدث الآن على أرض المحروسة يجب أن يكون دافعا لنا جميعا على أن نكون على قلب رجل واحد حتى نعبر هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المصرى.. ولكن لن يتحقق ذلك بحسن النوايا فقط ولكن بالإرادة الحقيقية والمخلصة فى بناء مصرنا الجديدة.. مصر ما بعد ثورة يناير.