لم تقم ثورة الخامس والعشرين من يناير لتحقق فقط أهدافها المعلنة فى شعارها الأشهر «عيش- حرية- كرامة إنسانية» وإن كان ذلك من المفترض أن يكون الهدف الأسمى لكل ثورة على أى أرض.. لأن الشعوب لم تثر يوما إلا بعدأن ضاقت ذرعا وصدرا بفقدان العيش الكريم والحرية الواجبة وكلاهما تتحقق معهما الكرامة الإنسانية.. ورغم ما تحظى به كل هذه المطالب المشروعة والأهداف الضرورية إلا أن جميعها لن يتحقق إلا باستقرار للوطن.. أى وطن.. وعلى أرض مصر المحروسة تكون حاجتنا لهذا الاستقرار أكثر إلحاحا لما نراه الآن من ظواهر سلبية تتناقض تماما مع ما هو مأمول من ثورة لاقت إعجابا منقطع النظير ونادر الحدوث من كل الدول صديقة كانت أو غير ذلك.. وإن المراقب لما يحدث فى الشارع السياسى المصرى أصبح يساوره القلق الشديد على مستقبل الأمة المصرية العريقة بعد أن تداخلت كل الخيوط السياسية- إن صح التعبير- ليكون الناتج وبكل أسف مظهرا هو الأبعد عما انتظرناه جميعا لثورتنا الطاهرة التى التف حولها كل طوائف وأطياف الشعب المصرى فى منظومة توحدت وأثارت استحسان وانبهار العالم بأسره لتحقق لنا حلما كان بعيد المنال فى ظل نظام ترسخّ طغيانه عبر ثلاثين عاما من كل صنوف الاستبداد والتسلط والفساد الذى استشرى فى كل أوصال الدولة مهددا إياها بفناء محقق- لا قدر الله. ??? ولم يكن غريبا ظهور هذه الروح الوطنية والوثابة لهذا الشعب العظيم، حيث يضم بين جوانحه أعرق حضارات الدنيا التى علّمت العالم كيف يكون نظام الحكم الرشيد.. وذلك مما يدعونا للتساؤل: أين اختفت هذه الروح المصرية الرائعة خلال ثورة يناير؟!.. وكيف نشأت بديلا عنها هذه المشاعر السلبية التى أوشكت أن تلقى بمصر وثورتها فى نفق مظلم يقودها نحو المجهول؟.. ومن المؤسف حقا ألا نجد استثناء لأية قوى سياسية لها دورها الفاعل على المسرح السياسى المصرى.. حيث أصبحت مصر بالنسبة لهذه القوى أشبه بالكعكة التى يريد كل منها الاستحواذ على أكبر قطعة فيها والنتيجة المؤكدة لهذا النهم والشره السياسى، وذلك التكالب المريض هو أن هذه الكعكة سوف تسقط قطعا وإربا على الأرض ليتم تلطيخها بالطين بحيث تستعصى على الالتهام الذى تنتظره كل هذه القوى وتصبح الخسارة فادحة للجميع ليندم كل هؤلاء ولكن- للأسف- فى وقت لا ينفع فيه الندم ولا تجدى فيه فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ??? وقد شهدت نهاية الأسبوع الماضى حادثا سياسيا مدويا أثار كثيرا من الزوابع السياسية التى اجتاحت المشهد السياسى المصرى بشكل غير مسبوق وأعادنا إلى أجواء الاحتقان السياسى قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية بما حملته هذه الأجواء من حملات تشهير وانتقاد تجاوزت فى معظمها كل أشكال اللياقة على المستويين السياسى والأخلاقى.. وهذا الحادث هو الإعلان الدستورى وما تبعه من إجراءات ترتبت عليه، بحيث يتغير على إثرها كثير من المواقف القانونية التى تشمل بشكل فاعل سلطتى التشريع والقضاء. وإذا كان الرئيس محمد مرسى قد أصدر قرارا بهذا الإعلان الدستورى والذى جاء مفاجئا للجميع وخاصة ما أعقبه من تداعيات شملت إقالة النائب العام وتعيين نائب عام جديد، وكذلك تحصين قراراته بالنسبة لمجلس الشورى والجمعية التأسيسية لصياغة الدستور.. وهنا تلقى المسئولية الكاملة على ما حدث فى أعقاب إعلان هذه القرارات وما أحدثته من هزة سياسية لكل القوى السياسية والأحزاب المصرية وسائر منظمات المجتمع المدنى على عاتق المستشار القانونى ومعه الهيئة الاستشارية المكلفة بدراسة هذه القرارات قبل إصدارها ومدى تطابقها وصحيح القانون.. ورغم ما بدا للعيان من تربص واضح لكل القوى السياسية وانتهازها هذه الفرصة لاستغلال رد الفعل الجماهيرى الذى انقسم بين مؤيد ومعارض لتحقيق مكاسب سياسية، إلا أن المبالغة قد شابت موقفهم السياسى وابتعدت به كثيرا عن الموضوعية والحرص على مصلحة الوطن فى مثل هذه الظروف الدقيقة والملتبسة من تاريخ مصر وكان فى المقابل قيام بعض من أصابهم ذلك الإعلان الدستورى من آثار ظنوا أنها قد تنال من استقلالهم المفترض وأعنى هنا سلطة القضاء الذى شهدت ساحاته ثورة عارمة حدثت خلالها تجاوزات لم نعهدها فى سلوك قضاة مصر الأجلاء، وكان لهذا السلوك الغريب والمدهش ما نال من هيبة القضاء قبل أن تسدد ضربات سياسية إلى رجال الحكم ونظامه.. ??? وإذا كانت الضرورة السياسية هى التى أوجبت صدور هذه القرارات فى مثل هذه الظروف الشائكة وبعض هذه القرارات كانت مطالب جماهيرية كان الشعب ينتظرها بدافع تطهير القضاء وسائر السلطات التى لم يزل بعض من فلول النظام السابق يمثلون مناصبهم فيها والتى ترى هذه الجماهير أن بقاء هؤلاء يعيق المضى قدما فى تحقيق أهداف الثورة إلا أن ذلك لا يجعلنا نخفى تحفظنا الواجب حيال كل من اتخذ موقفا مع أو ضد هذه القرارات ويأتى هذا التحفظ فقط على الأسلوب الذى اتبع فى معالجة هذا الموقف وهنا ومن ذلك نخلص إلى أن كل الأطراف لم يحالفها الصواب، حيث بدت لنا ظاهرة مؤسفة سيطرت على موقف المولاة والمعارضة معا، وهذه الظاهرة تكمن فى اختفاء الحكماء والعقلاء الذين من المفترض أن مصلحة الوطن والمواطن لديهم فى مرتبة الأولوية حين تكون هذه المصلحة القومية على المحك كما كنا نتوقع أن تكون مصر ومستقبلها فى ظل ثورة يناير مقدمة على أى مكاسب سياسية مهما تعاظمت هذه المكاسب وما يمكن أن تجلبه من مقاعد الحكم والسلطة. وفى هذا السياق تبرز أسماء لها مكانتها على الخريطة السياسية المصرية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تلك الكوكبة التى عقدت اجتماعا انفعاليا فور صدور هذه القرارات وكان مقره حزب الوفد بما له من مكانة تاريخية كانت تستوجب مراعاته لضبط النفس بعيدا عن أى انفعال تكون عواقبه وخيمة إذا ما ضاعفت الاحتقان الذى يكتنف الشارع السياسى المصرى مهددا أمن وسلامة البلاد.. وكانت هذه الكوكبة تضم السادة عمرو موسى ود.محمد البرادعى ود.عبدالجليل مصطفى ومعهم حمدين صباحى.. وكان يتعين على هؤلاء بما لديهم من حكمة وخبرة السنين فى العمل الوطنى أن يكونوا عوامل تهدئة لا بواعث تأجيج وليس كما حدث من أنهم كانوا على النقيض تماما، مما جعل سائر القوى السياسية على اختلاف أطيافها يحذون حذوهم المرفوض ولنا فى الجمعيات العمومية للنوادى والنقابات المثل الحى والسلبى فى نفس الوقت.. فضلا عن منظمات المجتمع المدنى والتى لجأ معظمها إلى تصفية الحسابات السياسية منطلقا لممارساتها السلبية. وقد لا يعنى ذلك أننا نبرئ أطرافا أخرى من أخطاء ارتكبت، ولكن حسبهم أنهم كانوا يعتقدون أن هذه القرارات هى خطوات واجبة لإنقاذ الوطن مما يعتريه من فوضى مدمرة تهدد الأمن القومى فى منطقتنا التى تتنازعها الصراعات الدولية.. ورغم ذلك فالفرصة مازالت متاحة أمام حكماء الأمة للخروج من هذه الأزمة بلا خسائر وهذا إذا ما توحد جميعهم على كلمة سواء تعلى أمن الوطن والمواطن وتبتعد عن كل ما يصمها من انتهازية سياسية سوف ندفع جميعا ثمنها الباهظ.. شئنا ذلك أم أبينا.